«الصراع على سورية» محوريّ في بناء النظامَين العربي والدولي
د. وفيق إبراهيم
هناك حقيقتان لا لبس فيهما كشفتهما تطوّرات الأزمة السورية. تفيد الأولى أنّ ما يجري في هذا البلد هو صراع «عليه» وليس مجرّد قتال داخلي بين أهله، والدلائل موجودة وكثيرة. أمّا الثانية فتؤكّد على محورية العلاقة بين هذه الأزمة وبين تشكّل النظامين العربي والدولي المرتقبين.
وللتوضيح، يتوجّب الربط السريع بين الزيارة الأخيرة التي قام بها منذ أسبوع ملك الأردن عبدالله الثاني إلى واشنطن للقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وبين بدء القصف الجوّي الأردني على جنوب سورية الذي انطلق فور عودة العاهل الأردني إلى عمان ظافراً أو محمّلاً بالأوامر والتعليمات.
ويستحسن الربط أيضاً مع ما تقوم به المخابرات الأردنية حالياً بتجميع التنظيمات العشائرية والقبلية المرتبطة بها في جنوب سورية للمشاركة في العمليات ضدّ الإرهاب على حدّ زعمها.
واستناداً إلى الإعلام الغربي، فإنّ المخابرات الأردنية تعمل على تجنيد بضعة آلاف من قبائل الجنوب المنتشرين أيضاً بواسطة فروعهم الأخرى في كلّ من الأردن والعراق، وذلك بهدف انتزاع منطقة سورية قريبة من الحدود الأردنية وحتى مشارف درعا عاصمة حوران قد تسمّى آنفاً مناطق آمنة».
وللربط أكثر كيف يمكن لدولة شديدة التواضع مثل بلجيكا أن تشارك في القصف الجوي في أكثر من منطقة سورية وتضارعها في القصف بلدان عريقة مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، ناهيك عن القصف الأميركي الدائم… هناك إذاً استنفار غربي عام للتدخل في سورية، يبيح التساؤل عن مدى أهمية سورية في الاستراتيجية الأميركية التي توجّه حلفاءها للمشاركة البرية والعسكرية فيها. الأمر الذي يدفع إلى البحث عن الأسباب الكامنة وراء الاهتمام الأقصى للبيت الأبيض بسورية، ويميط اللثام في آنٍ معاً عن أنّ التنظيمات التكفيرية والمسمّاة «معتدلة» ليست أكثر من «دمى» جرى استخدامها لتدمير سورية، وجرى إيهامها بأنّ مشاريعها التكفيرية قابلة للتطبيق، فتركت تقتل وتذبح وتسبي وتدمّر بضرورات الأهداف، وجرت تغطيتها وحمايتها من قبل تركيا والغرب. في المقابل، أدركت الدولة السورية عمق الأهداف الغربية، فعملت بسرعة على مجابهة القوى الداخلية وامتداداتها التركية والأردنية المدعومة من قطر والسعودية.
واتجهت لعقد تحالفات تبيّن عمق إدراك الدولة السورية لأبعاد الصراع، فبنت «تحالفاً إقليمياً» مع إيران وحزب الله، نجحت بواسطته في القضاء على من كانوا يحضّرون لتحويل لبنان إلى ساحة معادية. ونجح حزب الله في إسكات التكفيريين الداخليين، وتحوّل إلى فصيل أساسي يقاتل على الحدود من جهة، وفي الداخل السوري من جهة أخرى، في آن معاً.
من جهتها، لم تقصّر إيران في دعم الدولة السورية بكلّ احتياجاتها، الأمر الذي قلّص من المجالات السورية أمام الغزو التركي، مانعاً أيضاً من استعمال كردستان العراق والأنبار كموقع خلفية للتكفيريين.
إنّ حجم القوى الدولية والإقليمية المشاركة عسكرياً في الأزمة السورية أتاحت للدولة السورية فرصة التحالف مع روسيا صاحبة المصلحة في ردع النفوذ الغربي ومنعه من إسقاط سورية في سلّته الاستراتيجية.
عند هذا الحدّ، يمكن الجزم بأنّ القتال في سورية هو صراع دولي وإقليمي يستخدم كلّ الأدوات الخارجية والداخلية لإنجاز أهدافه. والبراهين المذكورة كافية، وإلّا كيف نبرّر تدخّل أكثر من ثمانين دولة غربية وإقليمية وعربية في الحرب على سورية؟ وهذه الدول تابعة كما هو معروف للنفوذ الأميركي في العالم؟! وكيف نفسّر أيضاً هذا التدخل الروسي العنيف، إلّأ باستشعار الدولة الروسية وجود مشروع غربي يريد جذب سورية نحوه للتأثير في مجريات الصراع الإقليمي والدولي. ولماذا تبذل إيران كلّ إمكاناتها لولا تأكّدها من أنّ البيت الأبيض يبني نظاماً إقليمياً ودولياً على أنقاض الدول المعادية له وفي طليعتها إيران؟
من ناحية أخرى، يبدو أنّ «للصراع على سورية» علاقة بنيويّة بتشكيل نظام عربي جديد يؤثر في النظام الإقليمي الشرق أوسطي والإسلامي، كما أنّ له علاقة بتركيب النظام العالمي الجديد قيد التركيب.
والمعلوم أنّ النظام العربي أُصيب بخلل كبير في هزيمة الرئيس الراحل عبد الناصر 1967 أمام «إسرائيل». وتفجر هذا النظام في ذهاب الرئيس أنور السادات إلى «إسرائيل» 1977 وعقده اتفاقاً معها، انسحبت بموجبه مصر نهائياً من الصراع العربي الإسرائيلي، وأخذت معها الأردن والسلطة الفلسطينية، وتسبّبت بأضرار جسيمة على القضية الفلسطينية.
ولولا ظهور الدولة الإسلامية في إيران وتبنّيها إيديولوجية تحرير فلسطين ودعمها لقوى المقاومة وطردها سفارة «إسرائيل» من طهران واستبدالها بسفارة فلسطينية، لكنّا في وضع مأساويّ مختلف… إيران عبّأت فراغ مصر، وسندت نظاماً متهاوياً، لكنّها ولاعتبارات «عروبة القضية» لم تتمكّن من ترميمه بشكل كامل.
وما زاد المسألة تدهوراً، هو انهيار الاتحاد السوفياتي 1989… عندها وضعت واشنطن يدها على العالم، وبدأت بإعادة بنائه وفاقاً لمقتضيات سيطرتها عليه. فغزت أفغانستان في 2001 ودمّرتها، ولم توفّر العراق فاحتلّته وقتلت عشرات الآلاف من أهله وفكّكت جيشه وسرقت ثرواته. ورعت ما أسمته «ربيعاً» عربياً في تونس ومصر وليبيا والعراق وسورية والسودان واليمن وباكستان، بدءاً من 2010 ولمّا ينته بعد. وكانت نتيجته تدميراً اجتماعياً ومادياً أطاحت بموجبه بالحجر والبشر، وما زالت كرة الثلج الإرهابية تكبر وتنمو وتتدحرج لتلتهم بلداناً إضافية.
وهذا يظهر ارتباط ما يجري من أزمات وحروب في منطقة الشرق الأوسط بمحاولات أميركية متعجّلة للإمساك بالمنطقة العربية والإسلامية، قبل عودة الروسي إلى مسرح التفاعلات الدولية ووصول الصين إلى درجة «الجاهزية القطبية»… والدليل أنّ أحداً لم يتصوّر إمكان استخدام الولايات المتحدة للإخوان المسلمين في مشروع وضع اليد على العالم العربي والإسلامي!
إنّ احداً لا يصدّق حتى اليوم أنّ المخابرات الأميركية تركت للتكفيريين خمس سنوات من حريات التمويل والقتل والتدمير والقضاء على الأقليات السياسية والعرقية والدينية، وصولاً إلى الأكثرية الإسلامية التي أُصيبت بدورها بأضرار من انغلاق الفكر التكفيري.
أمّا لماذا تركتهم واشنطن؟ فلاعتقادها أنّ هذه القوى كفيلة بتدمير الجيوش النظامية ودولها، وبذلك تسقط الدول فتعاود واشنطن تركيبها على النحو الذي تريده. وبشكل يقصي ثلاثة أنواع من النفوذ: الروسي والصيني والإيراني. لكنّ النتيجة جاءت مخيّبة لآمالها… الدولة السورية المدركة لعمق الأحداث، وروسيا التي سارعت إلى إجهاض اللعبة الأميركية بالسوخوي والمدمّرات والبوارج، وإيران التي تعرف مدى استهدافها أميركياً ومعها حزب الله والقوى اللبنانية والإقليمية.
هؤلاء حطّموا مشروع التفرّد الأميركي بإدارة شؤون العالم، ويواصلون قتالهم ضدّ الأشكال الجديدة للتدخّل الأميركي المصرّ على الإمساك بسورية وتشظيتها كمرحلة أولى من ضرورات الإمساك بالعالمين العربي والإسلامي. وهذا يتطلّب إنهاء القضية الفلسطينية انطلاقاً من سورية المحاذية لها والملهمة لكفاحها. لذلك، تعمل المخابرات الأميركية والتركية والأردنية المتأثرة بالمخابرات السعودية على إنشاء «مناطق آمنة» مزعومة في سورية. الأولى في الجنوب برعاية أردنية سعودية أميركية، والثانية في الشرق يديرها الأميركيون من خلال الأكراد وثالثة في الشمال، متروكة للنفوذ التركي. أمّا الرابعة فهي التي تمتدّ من دير الزور إلى الرقة ويؤدّي استحداثها إلى القضاء النهائي على «داعش»، وإقفال طرق إيران بين العراق ولبنان.
مقابل هذه «المناطق الأميركية» تقف الدولة السورية الرافضة لهذه المشاريع، والمصرّة على تحرير كامل الأراضي السورية في ايّة بقعة كانت… ومعها تحالفاتها.
ويتبيّن بالاستنتاج، أنّ المؤلف الإنكليزي باتريك سيل، كان محقّاً عندما ألّف كتابه بعنوان: «الصراع على سورية»، لإيمانه بالأهمية الاستراتيجية لهذا البلد ولرسوخه في الذاكرة العربية التاريخية وارتباطه العضوي بلبنان والقضية الفلسطينية والأردن والعراق..
والمنتصر في سورية، هو الذي يحتلّ موقعاً أساسياً في النظامين العربي الإقليمي والدولي، ولن يحقق ذلك إلّا الدولة السورية وتحالفاتها من روسيا وطهران وصولاً إلى لبنان.