نهج المقاومة هو البديل الوحيد
صبحي غندور
هل هناك معطيات جديدة في هذه المرحلة تحمل أيّ بارقة أمل للشعب الفلسطيني؟ إنّ المزيج القائم حالياً من واقع السلبيات الفلسطينية والعربية والدولية، إضافةً إلى طبيعة الحاكمين في «إسرائيل»، لا يُبشّر إطلاقاً بالخير. بل ما الذي سيكون أفضل في ظلّ إدارة ترامب من الإدارة السابقة، إن لم نقل منذ توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، عمّا هو موجودٌ الآن من سياسات أميركية و«إسرائيلية»؟ وكيف يمكن المراهنة مستقبلاً على جولات جديدة من المفاوضات إذا كان نتنياهو ومعظم أعضاء حكومته يرفضون وقف الاستيطان والانسحاب من القدس وحقّ العودة للفلسطينين، وهي القضايا الكبرى المعنيّة بها أية مفاوضات أو «عملية سلام» بين الطرفين الفلسطيني و«الإسرائيلي»، قبل إقامة الدولة الفلسطينية؟ وكيف يأمل الفلسطينيون بموقف أميركي فاعل إذا كانت إدارة ترامب ستتجنّب ممارسة أي ضعط فعلي على «إسرائيل»، وهو الأمر الذي حصل أيضاً مع إدارة أوباما رغم خلافه مع نتنياهو بشأن المستوطنات، حيث تراجعت واشنطن ولم تتراجع تل أبيب عن وقف الاستيطان؟
وما الذي تقصده المراجع الأميركية المعنية بالملف الفلسطيني حين تتحدّث عن «أهمّية تقديم التنازلات والتوصّل إلى حلول وسط»؟ وهل يمكن القبول بـ «نصف انسحاب إسرائيلي» من الضفة والقدس الشرقية و«نصف إزالة للمستوطنات»، و«نصف حلّ عادل» لمشكلة ملايين اللاجئين، وبالتالي «نصف دولة فلسطينية»؟
وهل ستراهن إدارة ترامب، ومعها حكومة نتنياهو، على استثمار نتائج ما حدث ويحدث في البلاد العربية من تهميش للقضية الفلسطينية ومن تفجير لصراعات وحروب أهلية عربية، ومن غياب لمرجعية عربية فاعلة، ومن تأزّم في علاقات بعض الدول العربية مع إيران، من أجل تحقيق التطبيع العربي والإسلامي مع «إسرائيل» قبل انسحابها من كلّ الأراضي العربية المحتلة في العام 1967؟
كانت المفاوضات المباشرة بين «إسرائيل» والسلطة الفلسطينية هي الأسلوب الوحيد الذى جرت المراهنة عليه طيلة 25 سنة من هذه المفاوضات العقيمة، بعد اتفاقية أوسلو وأخواتها. ومفهومٌ طبعاً هذا الإلحاح «الإسرائيلي» على المفاوضات المباشرة من دون شروط، ففي ذلك استئنافٌ أيضاً لما حصل في السنوات الماضية من قضمٍ للأراضي الفلسطينية و«تهويد» للقدس وبناء مستوطنات جديدة فيها وفي عموم الضفة الغربية، طبعاً مع تحسين صورة «إسرائيل» في العالم من خلال إظهار قادة فلسطينيين يتفاوضون ويمرحون مع أركان الحكم «الإسرائيلي».
مفهومٌ إذن، هذا الإصرار «الإسرائيلي» على المفاوضات من دون شروطٍ مسبقة، لكن لا يوجد أيُّ تفسيرٍ مقنع للموقفين الفلسطيني والعربي، حيث تستمرّ المراهنة فقط على أسلوب المفاوضات، وعلى المؤسّسات الدولية كخيار وحيد لإنهاء الاحتلال «الإسرائيلي»! فـ»إسرائيل» يدعمها الموقف الأميركي حرصت منذ حرب العام 1967 على التمسّك بأسلوب المفاوضات الثنائية المباشرة مع أي طرف عربي، وعلى الدعوة إلى حلول منفردة وإلى رفض الصيغ والوفود العربية المشتركة، ما شرذم الموقف العربي أوّلاً كما حدث بعد المعاهدة مع مصر ، وأدّى أيضاً إلى تقزيم القضية الفلسطينية وجعلها مسألة خلاف محصورة فقط بين الطرفين «الإسرائيلي» والفلسطيني!
لذلك، فإنّ الضغط الدولي المطلوب على الحكومة «الإسرائيلية» يحتاج أولاً إلى ضغط فلسطيني وعربي على واشنطن وعلى المجتمع الدولي عموماً من خلال توفير وحدة موقف فلسطيني وعربي، يقوم على رفض أي مفاوضات مع «إسرائيل» ما لم يتمّ الوقف الكامل والشامل لكلِّ عمليات الاستيطان في كلّ الأراضي المحتلّة، إضافةً إلى إنهاء الحصار القائم على قطاع غزّة، على أن يترافق ذلك مع تجميد كلّ أنواع العلاقات بين «إسرائيل» وبعض الدول العربية، وإعادة إحياء ودعم خيار المقاومة المسلّحة ضدّ الاحتلال «الإسرائيلي». وبذلك تكون هناك مصداقية للموقف الرسمي الفلسطيني والعربي، وتكون هناك خطوات عربية جدّية داعمة للحقّ الفلسطيني المُغتصَب.
لقد وصل نتنياهو إلى الحكم بفضل غالبية متطرّفة من الناخبين «الإسرائيليين»، وعلى رأس حكومةٍ فيها من قادة المستوطنين اليهود الذين يريدون تهجير الفلسطينيين من أرضهم، ويرفضون مبدأ حلّ الدولتين والاتفاقات الموقّعة مع السلطة الفلسطينية. أيضاً، وصل ترامب إلى «البيت الأبيض» بعد جملة مواقف وتصريحات مؤيّدة لنتنياهو، وإلى جانب ترامب الآن مجموعة من المستشارين والمساعدين الذين يرفضون أي خلاف مع «إسرائيل»، ويدعمون الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وسيعملون مع حكومة نتنياهو على التملّص من مسيرة التسوية مع الفلسطينيين، من خلال تصعيد الخلافات والصراع مع إيران، وليكون هذا الأمر هو أولوية الرؤية الأميركية في الشرق الأوسط الكبير.
عملت واشنطن، في مطلع التسعينات من القرن الماضي، لاستثمار نتائج حرب الخليج الثانية والصراعات العربية الحادّة التي سادت آنذاك، من أجل إقامة «شرق أوسط جديد» كانت تباشيره في مؤتمر مدريد ثمّ اتفاقيات «أوسلو» و«وادي عربة» وعلاقات بين «إسرائيل» وبعض الدول العربية، بينما لم تخسر «إسرائيل» شيئاً مقابل تلك التنازلات الفلسطينية والعربية. ومنذ ذلك الحين، أي في أكثر من عقدين من الزمن، اُجبِرت «إسرائيل» مرّتين على الانسحاب من أراضٍ عربية محتلة: جنوب لبنان وقطاع غزّة، فقط بفعل أسلوب المقاومة لهذا الاحتلال.
لقد أعطت «اتفاقيات أوسلو» عام 1993 لـ»إسرائيل» الاعتراف الفلسطيني بها قبل تحديد حدود «الدولة الإسرائيلية»، وقبل اعتراف «إسرائيل» بحقّ وجود دولة فلسطينية مستقلّة، وبتسليم من قيادة منظمة التحرير بنصوص في الاتفاقية تتحدّث عن «إعادة انتشار القوات الإسرائيلية» وليس عن انسحاب مُتوَجَّب على قوّات «محتلّة». فـ»إسرائيل» أخذت من الطرف الفلسطيني في اتفاق أوسلو كلّ شيء بما في ذلك إلغاء حقّ المقاومة المسلّحة مقابل لا شيء عملياً لصالح القضية الفلسطينية. فكفى الأمَّة العربية والقضية الفلسطينية هذا الحجم من الانهيار ومن التنازلات، وكفى أيضاً الركون لوعودٍ أميركية ودولية يعجز أصحابها عن تحقيق ما يريدون من «إسرائيل» لأنفسهم، فكيف بما يتوجّب على «إسرائيل» للفلسطينيين والعرب؟
فالطرف الفلسطيني أو العربي الذي يقبل بالتنازلات هو الذي يشجّع الآخرين على طلب المزيد ثمّ المزيد.
لقد أوقفت السلطة الفلسطينية التفاوض مع «إسرائيل»، لكن ما البديل الذي طرحته؟ وهل أعلنت مثلاً التخلّي عن نهج التفاوض لصالح أسلوب المقاومة المشروعة دولياً ضدَّ الاحتلال؟ هل تّمت إعادة بناء «منظمة التحرير الفلسطينية» لكي تكون «جبهة تحرّر وطني» شاملة توحِّد الطاقات والمنظمات الفلسطينية المبعثرة؟ ثمَّ ماذا لو استجابت حكومة «إسرائيل» لمطلب «تجميد الاستيطان» لبضعة أشهر، فهل يعني ذلك برداً وسلاماً في عموم المنطقة؟ وكيف لبضعة أشهر أن تصنع التحوّل في حكومة «إسرائيلية» قامت على التطرّف ورفض الاتفاقات مع الفلسطينيين، بحيث تقبل هذه الحكومة بدولة فلسطينية مستقلّة عاصمتها القدس، وبإنهاء المستوطنات وإعطاء اللاجئين الفلسطينيين حقوقهم المشروعة؟.
التفاوض مع «إسرائيل»، قبل إدارة ترامب وبعدها، هو مراهنة على سراب، كما هو أضغاث أحلام لا جدوى منها فلسطينياً وعربياً. فما هو قائمٌ على أرض الواقع هو وحده المعيار في أيِّ مفاوضاتٍ أو عدمها. وتغيير الواقع الفلسطيني والعربي هو الكفيل حصراً بتغيير المعادلات وصنع التحوّلات المنشودة في الموقفين «الإسرائيلي» والأميركي.
مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن
Sobhi alhewar.com