«التفكيكية الترامبية» هندسة أميركية لإدارة الصراعات في «الشرق الأوسط»
سومر صالح
بعد شهر، تقريباً، على تولي دونالد ترامب سدّة الرئاسة الأميركية، حدث انقلابٌ شبه تام على برنامجه الانتخابي، في مجال السياسة الخارجية. فلا تقارب مع روسيا في حلّ الأزمات الدولية، بل على العكس، تصعيدٌ سياسيّ وعسكريّ في مواجهتها، بدءاً من مطالبتها بإعادة «القرم المحتلة» على حدّ توصيف إدارته من على منبر مجلس الأمن. وتتابعاً، مع توسيع الحلف الأطلسي شرقاً وصولاً إلى عرقلة جهودها في سورية. وفي السياق ذاته، سريعاً ما عاد الرئيس الجديد إلى الالتزام بصين موحدة، بعد أن بدأ سياساته الدولية باتصال برئيسة تايوان، في إعلان تحدّ للصين. وبخلاف تصريحاته الانتخابية أيضاً، بدأ ترامب بتجديد الشراكة الاستراتيجية الأميركية – السعودية في مواجهة إيران وهو القائل عنها «بقرة حلوب متى جفّ حليبها سنذبحها»، طارحاً في برنامجه الانتخابي، آنذاك، «الأمن الخليجي مقابل المال» ومحاربة «الجماعات الوهابية». وفي الأزمة السورية بات مبدأ التعاون الأميركي – الروسي لمكافحة «داعش» باعتباره أولويةً خارج الصرف السياسيّ وبديل عنه تجديد لمشاريع أميركية بمناطق آمنه وتدخل بريّ في الرقة. وكان اللافت في سياسة ترامب في شهرها الأول، إظهار الاهتمام الأميركيّ بدور مصر والأردن في بلورة معالم الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط. وفي مقابل هذا التخلي الأميركيّ عن الوعود الانتخابية، كان جلياً تمسك ترامب بمسألتين مترابطتين، هما: وعوده تجاه «إسرائيل» والتزامه التامّ بأمنها القوميّ. والمسألة الثانية، تمسكه بعدائيته ضدّ إيران.
في مقابل هذه الاستدارات الترامبية عن برنامجه الانتخابي، جرت حلقاتٌ متصلةٌ من السلوك السياسيّ في الشهر الأول لسياسته، تؤطر بمجملها حركته السياسية وتحدّد منطقه السياسيّ المقبل، الحلقة الأولى، هي سلسلة اتصالات متلاحقة أجراها ترامب مع رئيس مصر وملك السعودية ولقاؤه مع ملك الأردن. توضح بمجملها طبيعة تحالفاته القادمة في الشرق الأوسط. فضلاً عن لقائه «نتيناهو» في واشنطن. الحلقة الثانية، هي ولوجٌ متزامنٌ لركيزتيّ ترامب الجديدتين في الشرق الأوسط: الأردن ومصر، على خط تسويات أزمات المنطقة. الأردن على خط التسويات في الأزمة السورية، مجسداً في لقاءات استانة. ومصر على خط تسويات الأزمة الليبية وإبرامها اتفاق القاهرة، بما يتخطى «مبادئ اتفاق الصخيرات. أما الحلقة الثالثة، فهي التخلي الأميركيّ عن مبدأ حلّ الدولتين في القضية الفلسطينية ورغبة ترامب الجامحة في نقل السفارة الأميركية إلى القدس، في نعيّ واضح ونهائيّ لخارطة الطريق و«مسار أوسلو» برمته. والحلقة الرابعة، هي سعي ترامب لتشكيل حلف عربيّ عسكريّ تقوده مصر في المنطقة، دون الإفصاح عن كامل أجندته.
وبإعادة تجميع وفرز المعطيات السابقة، خصوصاً هدم الأسس التي تقوم عليها التسوية الفلسطينية الصهيونية. وإشراك الأردن ومصر في تسويات المنطقة، وفق «مصالحهم الأمنية». ولامبالاة الولايات المتحدة بنتائج سياق أستانة والسير قدماً في خطواتها الانفرادية. يتضح أنّ نهج ترامب السياسيّ هو مزيجُ من «الديكونستركشن السياسيّdeconstruction »، أيّ التفكيكية/ التقويضية السياسية، لكلّ المبادئ السابقة التي تقوم عليها التسويات في منطقة معينة، بلا أفق جديد لإعادة بنائها مجدداً، مع السماح لكلّ اللاعبين، بمن فيهم الحلفاء، بـ«اللعب الحر» اللامتناهي والمتناقض سياسياً في المنطقة، وفق واقعية سياسية في الحسابات، لإعادة إنتاج أسس جديدة وشكلّ جديد لهذه التسويات ليست ثابتةً ونهائيةً في بنائها. فمثلاً، اشتراك الأردن في سياق أستانة غيّر شكل التفاوض. و«اللعب الحرّ» لتركيا هدّد أسس هذا اللقاء. وبالتالي، أستانة- 2 كان صورةً باهتةً عن أستانة- 1. وهذا جوهر النوايا الأميركية ويجب تعميمه على ليبيا واليمن، بمعنى إنتاج مسارات لا منتظمة لتسويات الأزمات. وعندما يأخذ أحد هذه المسارات بالانتظام، يقوم الأميركيّ بطرح معطى جديد يقوّض ما سبقه، استناداً إلى مبدأ «اللعب الحّر» البراغماتي والواقعي. فطرح المناطق الآمنة في سورية، أعاد الحسابات التركية مع روسيا. وربما معطى مشابه في الجنوب السوري، يغيّر الحسابات الأردنية. وتفكيكية ترامب هذه، أتت كاستجابة لحاجة أميركية في الاستفادة من التفلت الإقليميّ، الناتج عن الواقع الدولّي الجديد، الذي أصبحت فيه القطبية الأميركية في نهاياتها، أمراً واقعاً، وجب ضبطه أميركياً بصيغ متقدمة، عبر إيقاع هذه القوى في رمال متحركة من التسويات والأزمات، يستحيل معها الخروج إلّا بمساعدة أميركية. وبذلك، تفكيكية ترامب تتسق مع فوضوية جورج بوش في الهدم وتختلف معه في إعادة البناء، فالتفكيكية هنا تأخذ طابع الفوضى اللامتناهية وهي غائية في هدفها. فالفوضى اللامتناهية وتقويض كلّ الأسس السابقة لكلّ مسارات التسوية لملفات الازمات في المنطقة وما تحتمله من هندسة جيوسياسية جديدة للمنطقة برمتها، هي في خدمة هدف واحد واتجاه واحد عنوانه «أمن إسرائيل»، في صيغتيه الأساسيتين: تدمير أسس حلّ الدولتين نهائياً، مع الاحتفاظ بـ«يهودية الدولة الإسرائيلية» كخط عريض للاستراتيجية الأميركية. والصيغة الثانية، هي تقويض قدرات الردع والهجوم الإيرانية ولكامل محورها.
هنا يصبح السؤال مشروعاً: كيف يمكن ذلك في ظلّ المنهج التفكيكي لترامب، أو بالأحرى لإدارته؟ يمكن الجواب في نظرية اللعب الحر للقوى الإقليمية في المنطقة، الذي سيخلق الكثير من التناقض بين هذه القوى ويغرق كلّ طرف في الأزمة التي تعنيه. الأردن في الأزمة السورية ومصر في الليبية والسعودية في اليمنية، مع سعي أميركيّ لصياغة شكل من التحالف العسكريّ بين تلك القوى الثلاث وبإسناد «إسرائيلي»، لمواجهة ما يسمّى «النفوذ الإيراني» في المنطقة. تصبح مقدمةً لطرح نتينياهو المعروف بـ«السلام الإقليميّ» وقلب مفاهيم القضية الفلسطينية، ليكون هذا السلام مقدمةً للتسوية بين الفلسطينيين و«الإسرائيليين» وليس العكس، وفق مبادرة العرب في بيروت 2002 . وذلك من دون مواجهة مباشرة مع روسيا، التي ستتجنّب المواجهة بدورها، لأنّ الأميركيّ لن يتدخل لإسقاط «الحكومة» في سورية مباشرة. وسيكتفي بـ«داعش» ذريعةً للتدخل في سورية مؤقتاً. وهنا نلاحظ أنّ إجراءات التهويد بلغت ذروتها في الأراضي المحتلة، من ناحيتي القدس والمستوطنات وبرضا أميركيّ. أيّ أنّ الإدارة الأميركية تعمل على خلق واقع فوضويّ في الشرق الأوسط، عاصف بأزماته. وفي الوقت ذاته، تجهد على أن تكون «إسرائيل» في عين العاصفة ومستقرّها. وبالتالي، تفكيكية ترامب الفوضوية ستعمل على بلوغ حوائط الإعصار الأزموي سورية وليبيا تحديداً ذروته، ريثما يتمّ إعادة هدم المستقر التقليدي وهي ركائز القضية الفلسطينية وإعادة بنائها من جديد، في ظلّ غرق قوىً إقليميةً كالأردن ومصر في رمال التسويات المتحركة، بفعل السياسات الأميركية المرتقبة. بهذا، تصبح هذه الدول حاضرةً وبقوة، لقبول المقترح القديم الجديد «جيورا ايلاند»، أو مشروع مستنسخ عنه، لمحو مفهوم القضية الفلسطينية، عبر اقتطاع مساحات كبيرة من صحراء سيناء، لصالح قطاع غزة. وتعويض مماثل عنها لمصر، من منطقة باران جنوب غرب النقب، تكون بمثابة وطن بديل للفلسطينيين، أو دولة فلسطينية، مرفق بمغريات اقتصادية سعودية، كان جسر الملك سلمان واتفاق جزر تيران وصنافير بداية هذا المشروع فعلياً. وهذا يفسّر ودّ ترامب الشديد للأردن ومصر.
وطالما أنّ المشروع الصهيوني الجديد لم يتبلور بعد، من المتوقع أن تستمر التفكيكية/ التقويضية الأميركية في سياستها، كوسيلة لإدارة الصراعات في السياسة الخارجية الأميركية، حتى يتبلور هذا المشروع من رحم الأزمات المشتعلة والحاجة الإقليمية الماسة للأمن والاستقرار، حينها ستنتقل التفكيكية من الهدم اللامتناهي إلى البناء اللامتماثل، في خدمة الشكّل الصهيوني الجديد. وللأسف سيغدو «الشرق الأوسط» حين ذاك، بانتظار نسخة محدثّة من الفوضى الخلاقة Creative Chaos بأدوات جديدة.
عضو المركز الدولي للدراسات الأمنية والجيوسياسية