ترامب وغورباتشوف
ناصر قنديل
– سواء أكان ميخائيل غورباتشوف عميلاً للمخابرات الأميركية، كما يتّهمه خصومه أم لم يكن، وسواء كان دونالد ترامب عميلاً للمخابرات الروسية، كما يتّهمه خصومه أم لم يكن، فإنّ أوجه التشابه في الظروف التي أوصلت كلا من الرجلين إلى الحكم، والظروف التي يحكم فيها كل منهما، والأدوار التي يمثلها كل منهما في تاريخ الدولة العظمى التي وقف على رأس الهرم فيها، عناصر تسمح بالمقارنة الموضوعية بينهما.
– تولّى غورباتشوف قيادة الاتحاد السوفياتي بعد هزيمة في حرب كانت الأولى التي قام بها ضمن خطة هجومية خارج الحدود بعد الحرب العالمية الثانية عبر دخول قواته إلى أفغانستان، وليست دعماً تسليحياً لحليف أو تصعيداً ظرفياً لموقف فقط، وترتّب على هذه الهزيمة صعود نقمة شعبية في المجتمع الروسي عنوانها التذمّر من الإنفاق على الحروب وأمجاد العظمة، وارتفاع أصوات تنادي بأولوية الانتباه والاهتمام لداخل روسي يتداعى ويعاني اقتصادياً واجتماعياً، وتتراجع الخدمات فيه وبناه التحتية تتآكل بينما يتولى ترامب قيادة أميركا بعد هزيمة مدوّية لحروب، هي الأولى بعد الحرب العالمية الثانية الهادفة لتمديد نفوذ الزعامة الأميركية في العالم هجومياً ضمن حملة إمبراطورية وليست ضمن سياق تورّط بحرب، بدايتها دعم نظام حليف أو تابع كحروب فييتنام وكوريا، واتخذت عنوان غزو العراق وأفغانستان بداية وإسقاط سورية لاحقاً، وتصاعدت بأثر الهزيمة المطالبات بالتخلّي عن اللهاث وراء دور شرطي العالم، بينما أميركا في الداخل تتراجع اقتصادياً واجتماعياً، كما وصفها ترامب نفسه في حملته الانتخابية لجهة البطالة وتراجع الخدمات وتداعي البنى التحتية، وأطلق في مواجهة هذه الحال شعاره «أميركا أولاً».
– تتشابه حملات ترامب على الإعلام العقائدي المسيطر عليه فئوياً بالحملات التي شنّها غورباتشوف على الإعلام الايديولوجي، كما تتصاعد حملات ترامب على المخابرات بما يستعيد حملات غورباتشوف المشابهة والرجلان في معركة مع نُخَب بلديهما التي قادت طابعهما العالمي، الذي مثّل الإعلام والمخابرات جناحيه، وتتشابه أيضاً دعوات ترامب العنصرية الببضاء الموجّهة للداخل الأميركي بحملات غورباتشوف الروسيّة البيضاء الموجّهة لدول الاتحاد السوفياتيّ والساعية للتخلّص منها كأعباء. وكذلك تتشابه معارك ترامب مع التكتلات الاقتصادية التي تستأثر بالاقتصاد الأميركي لحساب أقليّة من المالكين والعاملين فيها، مقابل ذبول القطاعات التي تُشغل غالبية الأميركيين ويتوزّع أصحابها على شريحة ضخمة من أصحاب الرساميل، يمثلهم ترامب، بمعارك غورباتشوف ضد ملكيات الدولة للاقتصادات الضخمة وتهميش الرأسمال الصاعد، وكلاهما يرفع شعار إعادة التوازن لأجنحة الاقتصاد عبر مشروع «بريسترويكا» لإعادة البناء، وخطاب مباشر للشعب أسماه غورباتشوف بـ«الغلاسنوست»، ويترجمه ترامب في تغريداته اليومية عبر تويتر.
– اعتبر غورباتشوف أن سبب اختناق الاتحاد السوفياتي، خصوصاً روسيا ناجم عن الاستثمار اللامجدي على سباق التسلح، كضريبة للزعامة العالمية، وأن ترجيح كفة القطاع الخاص في الاقتصاد سيؤدي لإنعاش الطبقة الوسطى وبنى الإنتاج المجدي. ويعتبر ترامب أن الاختناق الاقتصادي لأميركا ناتج عن الضريبة التي تدفعها ثمناً للزعامة العالمية، سواء عبر نشر قوات هائلة خارج الحدود لحماية حلفاء أغنياء لا يدفعون شيئاً كاليابان وأوروبا والخليج، أو عبر التسهيلات الاقتصادية للحلفاء الفقراء ضمن اتفاقيات ترتّب عليها إضعاف الاقتصاد الأميركي كحال الاتفاقية مع الأرجنتين ودول المحيط الهادئ المعروفة بـ«اتفاق نفتا». ويلتقي الرجلان على الدعوة لتحرير بلديهما من هذه الأعباء طريقاً للانتعاش الاقتصادي، والخروج من الاختناق والركود.
– ترتّب على سياسات غورباتشوف مع إزالة سيطرة الدولة على القطاعات الاقتصادية الكبرى تراجع هائل في الواردات، وضعف في قدرة الدولة على الإنفاق فتراجع السوق وازداد ضموراً، وظهرت قوى اقتصادية جديدة بسرعة حملت اقتصاد السوق وما فيه من فوارق طبقية هائلة في المجتمع، فظهرت روسيا فيها خلال عشر سنوات كدولة من دول العالم الثالث، بعدما تفكّك الاتحاد السوفياتي وسقطت المنظومة الاشتراكية وانهار حلفها العسكري المسمّى بـ«حلف وارصو» وذهبت أغلب دوله لضفة الغرب تحت عنوان الاتحاد الأوروبي أو حلف الأطلسي. والسؤال الذي يواجه ترامب ومشروعه عما إذا كان سيترتب على ربط الانتشار العسكري بتسديد الحلفاء تكاليفه إلى تراجع النفوذ على الحلفاء وبالتالي في العالم، وما إذا كان سيترتب على إضعاف الشركات العملاقة العابرة للقارات لحساب الشركات الأميركية الوطنية الصرفة، والمعتمدة على السوق الأميركية، إلى اضطراب في الوزن النوعي للعملة الأميركية في الأسواق العالمية، وإلى إفلاسات تُصيب بسبب شحّ الموارد الخارجية وعائدات المضاربات، الكثير من المصارف الأميركية، وما إذا كان كل ذلك سيفتح النقاش حول مبرّر التمسك بالدولار عملة دولية إجبارية للتعاملات المصرفية، وبالمصارف الأميركية كعقدة مرور للطرق المالية في العالم. وهذان هما، الدولار والتداول المصرفي، آخر ما تبقى من جدران حماية لزعامة أميركية في العالم تترجمهما سياسة العقوبات التي تلوّح بها أميركا لخصومها كلّهم.
– لافت أن تقف الجالية اليهودية في كل من روسيا وأميركا بقوة وراء دعم الرجلين. ولافت حماسهما المفرط لـ«إسرائيل». وقد كانت مصلحة «إسرائيل» من غورباتشوف تنحصر بإخلاء الساحة الدولية لأميركا، بينما مع الهزال «الإسرائيلي» صار يكفي من ترامب أن يقدّم لـ«إسرائيل» حليفاً في أميركا لا يؤمن بأن «إسرائيل» تحتاج لمن ينقذها من نفسها ومن غطرستها، بل يشاركها هذه الغطرسة، حليفاً يطمئن مستوطنيها أنهم يحظون بحليف لا يجادلهم. كما هو لافت كيف كان سقوط الاتحاد السوفياتي بوليصة تأمين لربع قرن أمام «إسرائيل» التي كانت تواجه مع صعود غورباتشوف انتفاضة فلسطينية باسلة عرفت بانتفاضة الحجارة ومقاومة لبنانية نشطة كانت قد حرّرت نصف الأراضي المحتلة، فجاء التفرّد الأميركي في حكم العالم شحنة دفع لتتخطّى «إسرائيل» الكثير من المخاطر والأزمات، بينما يتزامن تخلخل أميركا اليوم مع زمن دخول «إسرائيل» أزمة وجودية قاتلة، ولا يبدو أمامها بوليصة تأمين. ولافت أيضاً أنه في زمن الانكفاء الروسي اندفعت أميركا لتملأ الفراغ، وفي زمن الانكفاء الأميركي تندفع روسيا لتملأ الفراغ. يفعلها التاريخ بقوّة ولكن بقسوة أيضاً… هو التاريخ!
– المفارقة أن غورباتشوف خاض معركة تغيير الاتحاد السوفياتي بلسان النخب المتأنّقة والمثقفة، بوجه من وصفَهم بـ«القبضايات»، ويخوض ترامب حربه بصفته «القبضاي» الذي يقاتل النخب المتحذلقة والمتفذلكة، وتكفي لغة ترامب لقول ذلك.