منشورات «دار أصالة» للأطفال… متعة القراءة ورسائل تربوية 3
النمسا ـ طلال مرتضى
نتابع في هذه الحلقة، الإضاءة النقدية على بعض إصدارات «دار أصالة» اللبنانية، التي تُعنى بالأدب الموجّه إلى الأطفال والناشئة.
«الصغير أذكى»… مَهدّت لمقولة «يضع سرّه في أضعف خلقه»!
منذ العنوان الأول الرئيس «الصغير أذكى»، نجد أن الكاتب ذهب نحو الإيهام، فالمتعارف عليه في قصص الأطفال والناشئة يلجأ الكاتب نحو العناوين ذات الدلالات التشويقية، والتي هي بمثابة «شبّاك التذاكر» لاقتناص الطفل الشغوف.
بالطبع لا ضير في الأمر، لعل الكاتب لم يرد تسليم متلقيه خيطاً من خيوط القصة قبل البدء من قراءتها وقد تكون مقصودة، ليتيح له فكّ بيت سرها عند ولوجها.
عبد الجواد الحمزاوي بدأ الحكاية بلغة ثقيلة تهادى سياقها السردي قفزاً بين لوحة وأخرى انحداراً صوب القفلة، الخاتمة. وأعني بكلمة ثقيلة أنها كتبت لفئة عمرية دون عمر الناشئة ليصار إسقاطها على أحداثٍ لقصةِ أطفالٍ أقل عمراً من الناشئة وهذا ما يجعل التلقي عندهم بطيئاً.
في قصته «الصغير أذكى» حاول الكاتب اللعب على وتر خاصية المنافسة بين الأخوة المنافسة الإيجابية أي بثّ روح التنافس ليكونوا أكثر قوةً، أكثر جرأةً… إلخ.
عندما حاول فأر متهوّر أن يودي بحياته نتيجة العناد واللامبالاة من خلال الشغب الذي أحدثه وهو يتسلّق حافة أحد المباني، ما جعل القطّ الأسود الكبير يتنبه ثمّ يقف له في وسط الطريق، ليقتصّ منه ما حدا بأخيه الفأر الأصغر للتدخل وإنقاذ الموقف. بعدما حاول إشغال القطّ الشرس تارة، وفي أخرى بثّ الحماسة لدى أخيه الذي جمد من الخوف، حيث انتهى الأمر بإنقاذه بحنكة الفأر الصغير، لنسقط المقولة ونشي بصحتها «يضع سِره في أضعف خلقه».
من غير المجدي أن أشير إلى قصة عبد الجواد الحمزاوي «الصغير أذكى» على أنها حكاية عابرة، نمرّ بها مرور القارئين، فتلك حالة لا تمتّ إلى الموضوعية القرائية إن كانت نقدية أو انطباعية. فالحكاية هي درس رسمت خطوطه بأنامل عارف، لتكون عبرة نتعض بها جميعاً، الكبار قبل الصغار.
الغيمة… عطاء!
ينظر كثيرون منا إلى أن تجربة الكاتبة علا حسامو في قصتها «ليست مجرّد غيمة» وطريقة تقديمها كحالة عادية وقد تكون متداولة إلى حدّ، بمعنى ليست طريقة مبتدعة، حينما مرّرت ما تُود قوله داخل إطارات ملونة على شكل لوحات متصلة منفصلة بفاعلية الرسم والكتابة، يمكن تعليقها على جدار أو حتى جمعها بكتاب.
أشير هنا، إلى أن طرق التخاطب مع المتلقي عديدة وكثيرة جداً، تختلف من كاتب إلى آخر في معطاها وحواملها، ولكنها تزداد حساسية وانتباه شديدين عندما يكون في هذه المرة، متلقيها مختلفاً ومميّزاً وذا خصوصية، كما هو الحاصل الآن في القصة الموجّهة إلى الطفل القارئ.
بالمتخيل بالفعل هي «ليست مجرّد غيمة»، لا لشيء، الا لأن الغيوم هي رمز للعطاء، وهي بيت سِرّ القصة الغيمة التي تشكّلت نتيجة تعالق البخار لتكون عين راصدة على ما يجري تحتها على الأرض من أشياءٍ بغاية الفرح. وذلك عندما رأت الخراف ترعى في السهل الأخضر وكيف كانت تلعب مع الراعي الصغير، ما حرّضها لتتنكر بهيئة خروف وتندس بين الخراف لتحصل على شيء من المتعة والتسلية لكنها فوجئت بأنها ارتكبت مغامرة كادت تودي بها عندما بدء الراعي بجز صوف الخراف مما عجل في هروبها، ثم لتقع في ذات المطبّ حين أغوتها عربة بائع الغزلة غزل البنات ، حيث تشكلت على شكل منفوش غزل البنات وهربت قبل أن يلتهمها طفل مشاغب. وتتكرر خياراتها الخاطئة إلى أن تنظر من الأعلى لترى طفلة ترسم صورة جدتها المريضة في حديقة المستشفى إذ إن الجدة كانت حزينة لأن شعرها تساقط بسبب العلاج.
ما دعاها للتشكل على هيئة شعر فوق رأس الجدة التي فرحت كثيراً عندما رأت صورتها مرسومة والشعر الجميل يغطي رأسها، وهذا ما جعلها تشعر بالفرح ـ أي الغيمة ـ بعدما بثت السرور في قلب الجدة المريضة.
قد يتساءل البعض عما عنته القصة أو الرسالة المراد توصيلها من خلال الحدث السردي بحامل القراءة والبصري بحامل الرسوم؟
جلَّ الحكاية أن الكاتبة أرادت تنبيه الطفل إلى إشارات بغاية الأهمية، بدءاً بعدم الانجرار وراء أشياء قد تغويه من دون حساب ردود الفعل، ما يجعل النتائج عكسية تماماً. عندما تتحول الفرحة إلى حزن ووجع كما حصل مع الغيمة التي كادت تتعرض للقصَّ من قبل الراعي.
لعل الحكاية فوق مُتخيل الطفل الاستيعابي لكنها إشارة مهمة للأهل.
فنياً، أقرُّ ان اللوحات الإيضاحية أتت منسجمة اللغة. وهي تشبع العين الرائية.
وهنا لا بدَّ من ترك لمزة تشي بأن طفل اليوم، ونتيجة احتكاكه بالمستحدثات والتقنية اليومية ، كان يمكن استثمار حدث القصة على نحو علمي فاعل يبدأ من تشكيل الغيمة من البخار وطوافها في السماء، إلى نزولها الى الأرض أمطاراً تسقي الأزهار والحيوانات فتهبها الحياة وعودتها مرة أخرى إلى السماء بخاراً، تسمو وتتكون بأشكالٍ تحرض مخيلة الطفل.
أمنيات مسترجعة سردياً… وسرقة للمتعة القرائية!
حينما كتب أحمد طي قصة «الحصّالة العجيبة» لم يكن هذا الحدث قد أتى من حالة بدع تفتقت به المخيلة. بل أجزم أنه كتبها بحالة من اللاوعي الاسترجاعي. ولا يعني بالمطلق إذ ذيلها بأسمه وتوقيعه بأنها صارت قصته هو فقط!
«الحصّالة العجيبة» قصّتي أنا. وقصّتك أنت، متيقن تماماً الآن أنك تستعيد تلك اللحظات وأنت تقرأ، وقد تهزّ رأسك كأنها كانت كل أمنياتك معلقة على واجهات المتاجر والبسطات التي تفترش الشوارع.
وهذا ما جرّني إلى مفاتن السؤال، ما قيمة أيّ عمل عاديّ في الحياة أو أدبي لا يرتبط بالذاكرة الجَمَاعية للفرد؟
إن أكثر مُنتج أدبي أصيل لا يكون على قدر كبير من الاصالة الا إذا دفقت به الحياة شيئاً من علائقها وهنا تأتت على شكل تدوين سيري عابر من خلال الذاكرة، عبر افتعالات الحدث، ومن ممارسات اليوم السائدة في الحياة.
أحمد طي الكاتب ولج ذائقتنا القرائية من بابها العالي ـ الأمنيات ـ ليدغدغ فينا الحواس كلها وهو العارف من أين تؤكل الكتف. الباب الذي يجعل القارئ مشاركاً في تشكيل سيناريوات مفترضة استباقياً لما تذهب إليه خاتمة القصة، وهو افتعال صحي بأن القارئ وجد شيئاً من إرثه الطفولي في السياق السردي حين قرر «مجدي» وأخته شراء حصّالة نقود صغيرة للادخار من مصروفهما اليومي لابتياع دراجة هوائية، تلك هي القصة فقط.
لكن المتتبع للحدث فيها يتلمس ويعايش ايضاً حجم التحدّي بين «مجدي» وأخته «ليلى» وبين المغريات الأخرى فالشارع يغصّ ببائعي الحلوى وغزل البنات وغيرها وهذا ما يجعل الأمر قابلاً لكسر حالة التقشقف حين الانجرار والرضوخ لتلك المغريات والتي سوف تؤخر من شراء الدراجة الحلم. أنه تحدّي الذات لأجل الوصول إلى الهدف المنشود.
وهنا يبدأ الكاتب باللمز والغمز نحو الأمّ التي كانت تراقب عن كثب عملية تدوين عدد النقود التي تودع بالحصالة ولهفة الأولاد لاستكمال الرقم المطلوب.
وحين يصار الوصول إلى ما يريدان وفتح الحصالة ليعتريهما التفاجؤ بأن المبلغ الموجود كبير وقد يكفي لشراء زلاجات رياضية لـ«ليلى»، وتلك هي مساهمة الأهل. وقد يقول البعض إنه الدعم الذي جاء في أوانه، وأنا أقول انه الرافع المعنوي لدى الطفل لجرّه نحو اتخاذ القرارات الصحيحة والتي لا يتوانى الأهل في هذه اللحظة عن الدعم.
«أمير الأطبّاء» قال: التجربة أكبر برهان!
في قصة نوار عضايلة «أمير الأطباء» مقام من مقال. والتي جاءت روياً على لسان بطلها وبطريقة مشوقة، ومن دون تحيّز يجب القول إنّ أطفالنا هم أحوج إلى مثلها وفي هذا الوقت بالتحديد، لسببين مهمين. الأول غناها بالمعلومات والآخر حجم التراكم المعرفي الذي تتركه في رأس الطفل الناشئ كتأسيسٍ أول إن صحّ القول.
على رغم أن نوار عضايلة لم تقترب من افتعالات «الأكشنة» كي تماشي ريتم العصر المنحدر سريعاً بفعل التقانة وغيرها. بل نحت نحو أن تُقدّم بطل القصة لأبطاله الصغار وتطلعهم على تجربته التي عاشها ومارسها.
وإذ لا بدّ من الإشارة إلى أن بعض المعلومات التي مرّرتها الراوية بسلطة الروي استوقفتني وجعلتني أعود والبحث في مراجع أخرى للتأكد من صحتها، لأنني ولا أخفي راودني هاجس بأن هذه المعلومات أتت على شكل إبراز عضلات في قصة للناشئة، ولكن بعد إتمام الحكاية وجدت أنها جزء من خطة الكاتبة ومن حوامل القصة الرئيسة والتي تستدعي القارئ إلى التأكد مما مرَّ في السياق.
لكنني توقفت طويلاً عندما عرفت أن محدثي في القصة هو العلامة الطبيب «أبو بكر الرازي» الشهير. ومن منّا لا يعرف أبو بكر الرازي؟ لكن ليس أجمل من أن تكون بين يديه وهو يقدّم نفسه بنفسه وهذا ما جعلني مشدوهاً وهو يسرد مسيرته الحافلة بالانجازات والعطاءات التي كان له الفضل بها على البشرية جمعاء.
تلك المسيرة التي ظلّت الكاتبة تلكز مخيلة القارئ حتى آخر سطرٍ في الأقصوصة هي إذن لم تأت من هباء، بل أنها تأصلت بالتجريب. لإن التجريب والتجربة فيهما الدليل القاطع لكل شيء كما قال الأسلاف: التجربة أكبر برهان.
وهذا سرّ نجاحه في مسيرته العلمية والتي ذاع صيتها. وتلك هي الرسالة التي أرادت الكاتبة دسّها في سياقات السرد عبر القول، والتي تدعو إلى عدم اتخاذ أي قرارات سريعة قبل التأكد من النتائج.
وفي ما يخص بناء الحكاية، فقد أتى منسجماً تماماً مع أحداثها والتي تواترت لتمرّر تاريخ طويل وحقبة مفصلية مهمة من تاريخنا. وهي أقصوصة يستفاد منها في المراحل الأولى من التعليم.