وفقاً للحكمة السائدة في الغرب، فإن الأزمة الأوكرانية صنيعة التعنّت الروسي. وتؤكّد هذه الحكمة أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحلم بإعادة إحياء أمجاد الإمبراطورية السوفياتية، ولن يحصل هذا من دون ضمّ شبه جزيرة القرم ومن بعدها كامل أوكرانيا كما باقي الدول في أوروبا الشرقية. ومن هنا، فإنّ قرار الإطاحة بالرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش في شباط الفائت، كان مجرّد ذريعة «بوتينية» لاستيلاء القوّات الأوكرانية على جزءٍ من روسيا.

وفقاً للحكمة السائدة في الغرب، فإن الأزمة الأوكرانية صنيعة التعنّت الروسي. وتؤكّد هذه الحكمة أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحلم بإعادة إحياء أمجاد الإمبراطورية السوفياتية، ولن يحصل هذا من دون ضمّ شبه جزيرة القرم ومن بعدها كامل أوكرانيا كما باقي الدول في أوروبا الشرقية. ومن هنا، فإنّ قرار الإطاحة بالرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش في شباط الفائت، كان مجرّد ذريعة «بوتينية» لاستيلاء القوّات الأوكرانية على جزءٍ من روسيا.

لكنها حسابات خاطئة، يقول جون ميرشايمر في تقريرٍ نُشر في « Foreign Affairs »، «فالولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون يتشاطرون الجزء الأكبر من المسؤولية عن هذه الأزمة. فأساس المشكلة توسيع رقعة اهتمامات حلف الناتو، الذي أصبحت قضيته المركزية الاستراتيجية نقل أوكرانيا من فلك روسيا والعمل على دمجها في الغرب. كما أن توسّع الاتحاد الأوروبي نحو الشرق بدعمٍ من الغرب للحركة الديمقراطية الأوكرانية التي بدأت مع الثورة البرتقالية عام 2004، كانت أيضاً عنصراً دقيقاً وحاسماً. وبما أنّ رؤساء روسيا الذين تعاقبوا عليها إبان التسعينات عارضوا ـ وبشدّة ـ توسّع الناتو، وقد أعلنوا صراحة في السنوات الماضية عن عدم رغبتهم في الوقوف موقف المتفرّج بينما يسيطر الغرب على جارهم الاستراتيجي. وبالنسبة إلى بوتين، فإن الإطاحة غير الشرعية بحكومة منتخبة ديمقراطياً في أوكرانيا ـ والذي وصفه وبحق بـ«الإنقلاب» ـ كانت القشّة التي قصمت ظهر البعير. ما دفعه إلى الاستيلاء على شبه جزيرة القرم الذي كان يخشى من أن يجعل منها حلف الناتو قاعدة عسكرية لحلفه والعمل من هناك على زعزعة استقرار أوكرانيا وتتخلّى عن جهودها للانضمام إلى الغرب.

يستمرّ الغرب في تهديد المصالح الاستراتيجية الروسية، الأمر الذي حذّر منه بوتين مراراً وتكراراً. تقف النخب الأميركية والأوروبية مصدومة أمام الأحداث الحاصلة لأنهم اشتركوا في سياسة دولية أدّت إلى حدوث خلل كبير. فهم يميلون إلى الاعتقاد بأنّ منطق الواقعية لا يحظى بأهمية تذكر في القرن الحادي والعشرين، وأن أوروبا ستبقى مصرّة على قاعدة هذه المبادئ الليبرالية، تماماً كما الحال مع سيادة القانون والترابط الاقتصادي والديمقراطية.

لكن هذا المخطّط الكبير في أوكرانيا انحرف عن مساره. فالأزمة تُبيّن أنّ السياسة الواقعية لا تزال ذات صلة ـ والدول التي تحاول تجاهل هذا، تجازف بالقيام بذلك على مسؤوليتها الخاصة. ارتكب قادة الولايات المتحدة وأولئك الأوروبيون خطأً فادحاً بمحاولة تحويل أوكرانيا إلى معقل غربيّ على الحدود الروسية. الآن، وقد أصبحت العواقب واضحة ومعروفة، فسيكون من غير المسموح المضيّ في هذه السياسة غير الشرعية».

الإهانة الغربية

ويتابع ميرشايمر في « Foreign Affairs»: «مع اقتراب الحرب البادرة من نهايتها، فضّل القادة الروس أن تبقى القوات الأميركية وقوات حلف شمال الأطلسي في أوروبا للحفاظ على الهدوء والأمن في ألمانيا المتحّدة حديثاً. لكن هؤلاء ومن خلفهم الروس، لم يريدوا للناتو أن تنمو قوّته وافترضوا أنّ الدبلوماسيين الغربيين قد تفهموا هواجسهم هذه. كانت إدارة كلينتون هي من تفطّنت لهذا، فعملت جاهدة على توسيع رقعة سيطرة حلف الناتو. وجاءت جولة التوسّع الأولى عام 1999 في جمهوريات التشيك والمجر وبولندا، أمّا الثانية فحصلت عام 2004 وشملت كلاً من بلغاريا، إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا، رومانيا، سلوفاكيا، وسلوفينيا. اعترضت روسيا بشدّة على هذه البداية. وصرّح الرئيس الروسي بوريس يلتسين عام 1995 إبان قصف الناتو البوسنيين الصرب: «هذا هو ما سيحصل عندما يقترب الناتو من الحدود الروسية… فقد تشعل هذه الشرارة فتيل الحرب في أوروبا كلّها». لكن الروس كانوا حينذاك أضعف من أن يعرقلوا حركة توسع الناتو الخطيرة نحو الشرق.

خلال قمة نيسان عام 2008 في بوخارست، قرّر هذا التحالف الاعتراف بجورجيا وأوكرانيا. دعمت إدارة جورج دبليو بوش هذا القرار، فيما عارضتهم كلّ من فرنسا وألمانيا خوفاً من احتمال استعداء روسي لا مبرّر له. وفي النهاية توصل أعضاء الناتو إلى حلّ وسطيّ: لم يبدأ أعضاء الناتو إجراءات ضمّ هاتين الدولتين، لكنهم أصدروا بياناً يراعون فيه تطلّعات جورجيا وأوكرانيا، وأعلنوا بجرأة: «سوف تصبح هاتان الدولتان عضوان في حلف الناتو».

ومع هذا، لا ترى موسكو النتيجة النهائية لهذا الحلّ الوسط. وصرّح نائب وزير الخارجية الروسي آلكسندر غروشكو أن «سيكون لعضوية جورجيا وروسيا عواقب وخيمة على الأمن في أوروبا عموماً». وحافظ بوتين على الاعتراف بأن ضمّ البلدين إلى حلف الناتو سيشكل «تهديداً مباشراً» لروسيا. وأشارت صحيفة روسية إلى أنّ بوتين وخلال محادثاته مع بوش قال بكلّ شفافية: «إذا ما قُبلت عضوية أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي، فإنها ستختفي من الوجود».

كان من المفترض أن يبدّد غزو روسيا لجورجيا عام 2008 أيّ شكوك حول إمكانية السماح لها بالانضمام إلى عضوية حلف الناتو. والرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي الذي كان يأمل في ضمّ بلاده إلى الناتو، قرّر إعلان دمج المنطقتين الانفصاليتين، أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية. وأصرّ بوتين على إبقائها ضعيفة ومقسّمة وبعيدة من متناول الناتو، الذي تخلّى عن قراره ضمّ جورجيا وأوكرانيا إلى حلفه. غير أن توسّع هذا الحلف بقي يمضي قدماً بضمّ ألبانيا وكرواتيا إليه عام 2009.

كشف الاتحاد الأوروبي النقاب في أيار 2008 عن مبادرة الشراكة الشرقية من خلال برنامج تعزيز الرخاء في بلدان مثل أوكرانيا ودمجها مع الاقتصاد الأوروبي. وليس من المستغرب أن يعتبر القادة الروس أن مثل هذه الإجراءات معادية لمصالحهم. وقبل إجبار يانوكوفيتش على التنحي في شباط الماضي، اتّهم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الاتحاد الأوروبي بمحاولته خلق «منطقة نفوذ» في أوروبا الشرقية. وفي عيون القادة الروس، فإن تمدّد الاتحاد الأوروبي حصان المطاردة الذي تختبئ خلفه طموحات حلف شمال الأطلسي في التوسع.

وكانت الأداة الأخيرة بيد الغرب لإبعاد كييف عن موسكو قد وجدت ملاذها في نشر القيم الغربية ونشر الديمقراطية في أوكرانيا ودول الاتحاد السوفياتي السابقة، خطة تنطوي غالباً على تمويل الأفراد والمنظمات ودعمها من قبل الغرب. وأوضحت فيكتوريا نيولاند، مساعدة وزير الخارجية الأميركية لشؤون أوروبا وأوراسيا، في كانون الأول 2013 أن الولايات المتحدة استثمرت أكثر من 5 بلايين دولار أميركي منذ عام 1991 لمساعدة أوكرانيا في تحقيق «المستقبل الذي تستحقه».

يخشى القادة الروس أنّ بلادهم هي التالية على خريطة التغييرات الجذرية التي أصابت أوكرانيا. وكتب غيرشمان في أيلول عام 2013 في صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، «إن خيار أوكرانيا الانضمام إلى أوروبا سوف يصعّد من وتيرة خفوت إيديولوجية الإمبريالية الروسية التي يجسّدها بوتين». ويضيف: «يحظى الروس أيضاً بخيار كهذا، وقد يجد بوتين نفسه يخسر كلّ شيء ليس فقط على حدود بلاده، إنما في روسيا نفسها أيضاً».

خلق أزمة

تتضمن حزمة الغرب السياسية أبعاداً ثلاثة: توسيع الناتو، تمدّد الاتحاد الأوروبي، وتعزيز الديمقراطية. أمورٌ تُضيف الوقود إلى النار بانتظار الاشتعال. انطلقت الشرارة في تشرين الثاني عام 2013 عندما رفض يانوكوفيتش صفقة اقتصادية كبيرة تفاوض بها الاتحاد الأوروبي معه، حين قرّر قبول مبلغ 15 بليون دولار كعرض روسي مضادّ. وأجّج هذا القرار احتجاجات ضدّ الحكومة تصاعدت وتيرتها في الأشهر الثلاثة التي تلت، والتي أدّت في منتصف شباط إلى موت مئات المحتجّين. طار المبعوثون الغربيون على عجل إلى كييف للعمل على حلّ الأزمة. وفي 21 شباط، عقدت الحكومة والمعارضة اتفاقية تقضي بالسماح ليانوكوفيتش بالبقاء في الحكم إلى حين إجراء الانتخابات الجديدة، الذي ما لبث أن طار في اليوم التالي إلى روسيا، وتشكّلت في أوكرانيا حكومة موالية للغرب معارضة لروسيا حتى النخاع، وتضمّ ـ فضلاً عن ذلك ـ أربعة أعضاء يسمّون أنفسهم شرعياً «الفاشيون الجدد».

ليس من المستغرب أن تعتقد روسيا أنّ الولايات المتحدة هي التي دعمت الانقلاب. فقد شارك كلّ من نيولاند والسيناتور الجمهوري جون ماكاين والسفير الأميركي في أوكرانيا جيفري بايات في الاحتجاجات ضدّ الحكومة، كما أنهم أعلنوا بعد إسقاط الحكومة أن هذا اليوم سيسجله التاريخ. ثم كشفت بعض التسريبات لمحادثات نيولاند الهاتفية أنها دعمت إسقاط النظام وسعت إلى تولي أرسيناي ياتسينويك رئاسة الحكومة وهذا ما حصل.

حينذاك، آن الأوان بالنسبة إلى بوتين للتحرك ضدّ الغرب، فبعد 22 شباط أمر القوات الروسية بأخذ شبه جزيرة القرم من أوكرانيا وضمّها إلى روسيا. كانت العملية أسهل من المتوقع، خصوصاً أن أكثر من 60 في المئة من سكان شبه الجزيرة، هم من الروس ويريدون التخلّص من أوكرانيا.

بعدئذٍ، ضغط بوتين بشدّة على الحكومة الأوكرانية الجديدة، مهدّداً بأنه سيحيل البلد دماراً قبل أن تصبح أوكرانيا مركزاً للغرب على حدود بلاده. إضافة إلى أنّه لم يتوقف عن دعم المنشقّين في أوكرانيا الغربية بالخبراء والجيش والعتاد والدعم الدبلوماسي، وحشد الآلاف من رجاله على الحدود الأوكرانية مهدّداً باجتياحها إذا ما ضيّقت الحكومة الأوكرانية الجديدة الخناق على المتمرّدين. ورفع أسعار الغاز المصدّر إلى أوكرانيا وطالب الحكومة بدفع مستحقاتها القديمة. يلعب بوتين لعبة قاسية لا هوادة فيها.

التشخيص

ينبغي فهم أفعال بوتين وتصرفاته. فهناك فسحة واسعة من الأراضي التي عبرتها القوات «النابوليونية» الفرنسية والإمبرطورية الألمانية وكذلك النازية، لضرب روسيا. ولا عجب أن تستخدم أوكرانيا الموقع الاستراتيجي ذاته لهذا الغرض مجدّداً. لن يتسامح الرئيس الروسي مع أيّ تحرّك عسكري يبدأ من أوكرانيا مدعوماً من الغرب.

قد لا توافق واشنطن على أفعال موسكو، لكن عليها أن تُخضع ما يقوم به بوتين للعقل والمنطق. هذا هو واقع الجغرافيا السياسية: فالقوى العظمى حساسة دوماً إزاء التهديدات المرتبطة بحدودها. فلنتخيّل معاً الغضب الأميركي إذا ما حاولت الصين بناء حلف عسكريّ يتضمّن كلاً من كندا والمكسيك!!! فضلاً عن ذلك، فإن روسيا صرّحت مراراً وتكراراً رفضها ضمّ جورجيا وأوكرانيا إلى حلف الناتو وقلبهما ضدّ روسيا. وفي النهاية هي ـ أي روسيا ـ من يستطيع تحديد عدوّه.

وكي نفهم لمَ فشل الغرب ـ وتحديداً ـ الولايات المتحدة في فهم الاشتباك الكبير في السياسة الأوكرانية مع روسيا، ينبغي بنا العودة إلى منتصف التسعينات، عندما بدأت إدارة كلينتون تدعو إلى توسّع حلف الناتو. كذلك فعلت معظم الدول الأوروبية التي رغبت في أن يحمي هذا الحلف بعض الدول مثل هنغاريا وبولندا، على اعتبار أنّ روسيا لا تزال بحاجة إلى من يحويها. وكان الدبلوماسي الأميركي جورج كينان قد توقّع في مقابلة أجريت معه عام 1998 وعقب موافقة مجلس الشيوخ على توسّع رقعة الناتو: «إن روسيا لن تقف متفرّجة على ما سيحدث، فهم سيتفاعلون تدريجياً وقد تتأثر سياساتهم». وأضاف: «إنه خطأ مأسوي ما من مبرّر حقيقي له، إذ ما من أحد يهدّد الآخر».

فضّل معظم الليبراليين من ناحية أخرى التوسّع بمن فيهم بعض أعضاء إدارة كلينتون. فهم آمنوا بأن نهاية الحرب الباردة قد أسّست لنقلة نوعية على مستوى العلاقات السياسية العالمية، وأنّ نظاماً جديداً متجاوزاً للقوميات سيولد في أوروبا الواقعية. فالولايات المتحدة، ليست فقط «الأمة التي لا غنى لأحد عنها»، كما أوضحت ذلك وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت، بل هي أيضاً قوة حميدة مسيطرة وليس من المفترض أن تشكل تهديداً لروسيا. كانت الغاية من كل هذا جعل القارة كلّها تشبه أوروبا الغربية، خصوصاً أنّ الأوروبيين متشبثون بفكرة أنّ الجغرافيا السياسية لم تعد ذات أهمية تُذكر وأنّ النظام الليبرالي الشامل يمكن له إحلال السلام في أوروبا كلّها. هذه النظرة الليبرالية أضحت الآن عقيدة بين المسؤولين الأميركيين. وعلى سبيل المثال، ألقى الرئيس أوباما خطاباً حول أوكرانيا في آذار الماضي وتحدّث بإسهاب عن «المُثُل» التي دفعت بالسياسة الأميركية، وكيف أن هذه «المُثُل» كثيراً ما هدّدت سابقاً القوة الأقدم والأكثر تقليدية. كذلك تفاعل وزير الخارجية جون كيري مع أزمة القرم من المنظور عينه: «لا يمكن في القرن الحادي والعشرين أن نتصرّف وكأننا في القرن التاسع عشر، عندما كانت بعض الدول تغزو الأخرى استناداً إلى حجج واهية وملفقة». الخلاصة أنّ الفريقين يريدان سيناريوات مختلفة: بوتين ورفاقه يتصرفون وفقاً لمقتضيات الواقع والواقعية، بينما يشجع نظراؤهم الغربيون الأفكار الليبرالية في السياسات الدولية. والنتيجة أن الولايات المتحدة وحلفاءها أثاروا أزمة كبيرة في أوكرانيا.

لعبة اللوم

وفي تلك المقابلة نفسها عام 1998، والتي تخوّف فيها كينان من الأزمة التي سيثيرها توسّع حلف الناتو، مؤكداً «أننا نعرف جيداً كيف يفكر الروس». اعتبر معظم القادة الغربيين أنّ بويتن هو الجاني الحقيقي في إثارة الأزمة الأوكرانية. وصرّحت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في آذار الماضي في صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، أن بوتين رجل غير عقلاني، وأكدت حينذاك لأوباما أن هذا الرجل «يعيش في عالم آخر». وعلى رغم عدم شكّنا بنزعات بوتين الاستبدادية، لكن ما من دليل حقيقي على عدم توازنه العقلي. بل على العكس، فقد أثبت هذا الرجل أنه استراتيجي من الطراز الرفيع، وأنه من المفترض بأيّ شخص يتحدّاه على مستوى السياسة الخارجية أن يخافه ويهابه ويحترمه.

ويزعم محلّلون آخرون أنّ بوتين يأسف لانهيار الاتحاد السوفياتي ويصمّم على استعادة حدود روسيا. ووفقاً لهذا التحليل، فقد استولى بوتين على جزيرة القرم، وقد يسعى إلى التوسّع نحو أوكرانيا، أو على الأقلّ نحو الجزء الشرقي منها، ولن يتهاون أبداً مع الدول المجاورة لروسيا. البعض يرى في بوتين صورة أدولف هتلر هذا القرن، وأنّ أيّ صفقة خاطئة معه ستعيد إلى الأذهان تجربة ميونيخ. لذا، على حلف شمال الأطلسي الاعتراف بضرورة احتواء جورجيا وأوكرانيا لروسيا، قبل أن تفرض هذه الأخيرة هيمنتها على جيرانها وتهدّد بالتالي دول أوروبا الغربية.

لكن كلّ هذه التحليلات تتداعى. فإذا كان لدى بوتين نوايا تخطّط لروسيا أكبر، كان من المفترض أن تظهر قبل الثاني والعشرين من شباط. لكن ما من دليل أنه كان يخطّط لأخذ شبه جزيرة القرم ولا أيّ مقاطعة أوكرانية قبل ذلك التاريخ. حتى القادة الغربيون ممن دعموا مسألة توسع حلف الناتو فوجئوا بسيطرته على القرم التي يرون أنها جاءت كردّ فعل طبيعيّ بعد الإطاحة بيانوكوفيتش.

حتى لو أرادت روسيا ضمّ الجزء الأوكراني من روسيا إليها، فلن تستطيع. فحوالى 15 مليون من السكان ـ أي ثلث الشعب الأوكراني ـ يعيشون على أحواض نهر دنيبر، الذي يفصل أوكرانيا عن الحدود الروسية. وقسمٌ كبير من هؤلاء يفضلون البقاء في أوكرانيا وسيقاومون أيّ احتلال روسي. فضلاً عن أن روسيا لن تستطيع تحمّل نفقات تهدئة كامل أوكرانيا، فاقتصادها الضعيف يعاني أكثر في مواجهة العقوبات المفروضة.

وحتى لو كان لدى روسيا الإمكانيات العسكرية والاقتصادية، فهي لن تحتلّ أوكرانيا. على المرء أن يأخذ في عين الاعتبار تجربة كل من السوفيات والأميركيين في أفغانستان، تجربة الولايات المتحدة في فييتنام والعراق، والتجربة الروسية في الشيشان وهي بمجملها تجارب فاشلة. فبوتين يدرك تماماً أنّ محاولته إخضاع أوكراينا ستكون كمن يبلع العلقم. ردود فعله على الأحداث الدائرة هناك جاءت ـ ببساطة ـ دفاعية لا هجومية.

وسيلة للخروج

وعلى رغم أنّ كيري حاول الحفاظ على جميع الخيارات المطروحة على الطاولة، فلا الولايات المتحدة ولا حتى حلفاءها في الناتو مستعدّون للانخراط في الدفاع عن أوكرانيا. جلّ ما قد يفعلونه فرض عقوبات اقتصادية على روسيا نتيجة دعمها المعارضين في أوكرانيا الشرقية. والجولة الثالثة من هذه العقوبات وُضعت في تموز الماضي واستهدفت أشخاصاً رفيعي المستوى ممن لهم علاقات وثيقة مع الحكومة الروسية، فضلاً عن بعض البنوك الكبيرة وشركات الطاقة والدفاع. وهم يهدّدون بعقوبات أقسى على المستوى الاقتصادي. لكن مثل هذه العقوبات قد تُسحب من التداول في الوقت الحالي فالدول الأوروبية الغربية تخاف من ردّ فعل روسيا في حال زادت العقوبات الاقتصاية عليها. ويؤكد التاريخ أنّ دولاً كثيرة تستطيع تحمّل عبء العقوبات الاقتصادية بهدف حماية مصالحها الاستراتيجية. وروسيا لن تكون استثناءً.

يسعى الاتحاد الأوروبي حالياً إلى توسيع شراكاته الشرقية. ففي آذار الماضي، ، لخّص جوزيه مانويل باروسو، رئيس المفوضية الأوروبية نظرة الاتحاد حول الأزمة الأوكرانية بالقول: «نحن ندين لهذه الدولة، ونتضامن معها، وسوف نسعى إلى تقريبها إلينا قدر الأمكان». وقد وقّع الطرفان اتفاقية اقتصادية في السابع والعشرين من حزيران الماضي كان يانوكوفيتش قد رفضها قبل سبعة أشهر. كذلك حلف الناتو لا يضع شروطاً على انضمام أوكرانيا إليه حتى لو لم يسمّها بالإسم. واتفق وزراء الخارجية على ضرورة دعم قدرات أوكرانيا العسكرية في مجالات مثل القيادة واللوجستية والسيطرة والدفاع. رفض الروس هذه الإجراءات المحتملة، بينما يتمسّك الغرب بها ما سيقود إلى وضع أكثر سوءاً.

ثمّة حلّ للأزمة في أوكرانيا، على رغم أن هذا الحلّ يتطلّب من الغرب التفكير بهذا البلد وفقاً لأسس جديدة. فعلى الولايات المتحدة وحلفائها التخلي عن مخططهم تقريب أوكرانيا وألا يهدفوا إلى جعلها منطقة عازلة محايدة بين دول حلف الناتو وروسيا، كما فعلوا مع النمسا خلال الحرب الباردة. على القادة في الغرب أن يعترفوا بأنّ الأزمة في أوكرانيا تختلف كثيراً وبأن هذا البلد يستحوذ اهتمام بوتين إلى حدّ أنه لن يسمح بإقامة نظام مضادّ هناك. لكن هذا لا يعني أنه يفترض بالحكومة الأوكرانية المقبلة أن تكون حليفة للروس أو معادية للناتو. بل على العكس، أوكرانيا المستقبلية يُفترض أن تكون محايدة، ألا تكون موالية لروسيا ولا معادية للمعسكر الغربي.

ولتحقيق هذه الغاية على الولايات المتحدة وحلفائها العمل على الحدّ من طموحات الناتو في التوسع داخل جورجيا وأوكرانيا. على الغرب السعي إلى اجتراح نموذج اقتصادي ينقذ أوكرانيا بمساعدة الاتحاد الأوروبي، صندوق النقد الدولي، روسيا، والولايات المتحدة. اقتراحٌ على موسكو أن ترحب به، نظراً إلى مصلحتها في أن تكون جارتها الأوكرانية بلداً مستقرّاً ومزدهراً. وعلى الغرب أن يوقف محاولة جهوده للتغييرات على مستوى الهندسة الاجتماعية فيها. آن الأوان إلى وضح حدّ للدعم الغربي للثورة البرتقالية. ومع ذلك فعلى الولايات المتحدة والقادة الأوروبيين تشجيع أوكرانيا على احترام حقوق الأقليات، خصوصاً الحقوق اللغوية للناطقين بالروسية.

قد يناقش البعض أنّ أي تغيير قد يحدث إزاء القضية الأوكرانية سيدمّر بجدّية مصداقية الولايات المتحدة أمام العالم. سيكون هناك بلا شك بعض التكاليف، لكن كلفة الاستمرار في اتباع سياسة استراتيجية ستكون مضلّلة. فالعالم يميل إلى احترام الدولة التي تستفيد من أخطائها وتضع في نهاية المطاف سياسة تتعامل مع مشكلة في متناول اليد. إنه خيارٌ مفتوح وواضح في يد الولايات المتحدة.

الخيارات الصعبة

وهناك وجهات نظر أخرى تؤكد على حق أوكرانيا في اختيار حلفائها وأنه لا يحقّ لروسيا منع كييف من الانضمام إلى الغرب. لكنها وسيلة خطِرة على أوكرانيا إذا ما أصرّت على اعتماد مثل هذه الخيارات السياسية الخارجية. غير أنّ الحقيقة المحزنة تتمثل بحق الدول العظمى في اللعب. فحقوق مجرّدة مثل حق تقرير المصير لا تعني شيئاً عندما يقع الشجار بين الدول العظمى والأخرى الضعيفة. فهل كان لكوبا الحق بتأسيس حلف عسكري مع روسيا خلال الحرب الباردة؟ الولايات المتحدة لم تفكر بتلك الطريقة، كما أنّ روسيا لا تقبل فكرة انضمام أوكرانيا إلى الغرب. وعلى أوكرانيا أخذ كل هذه الحقائق بعين الاعتبار وأن تكون أكثر حذراً في التعاطي مع جارتها القوية.

وحتى لو رفض أحدنا هذا التحليل، وأعتقد أنّ لدى أوكرانيا الحق في تقديم التماس للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وهؤلاء يمتلكون ـ في المقابل ـ حق رفض هذا الطلب. ما من سبب لدى الغرب يمنعه من استيعاب أوكرانيا إن هي عزمت اتّباع سياسة خارجية خاطئة، خصوصاً إذا لم يكن في دفاعها مصلحة قومية.

قد يعترف بعض المحللين بأنّ علاقات الناتو مع أوكرانيا لا تزال ضعيفة، ولا تزال روسيا تشكل العدوّ الأكبر ولا خيار آخر للغرب سوى باتباع سياسته الحالية. لكن وجهة النظر هذه خاطئة جداً. فروسيا قوّة في طور الانحلال، وستضعف تدريجياً مع الوقت. وحتى لو أنّها تعتبر قوة صاعدة، فلا جدوى من دمج أوكرانيا مع الحلف الأطلسي. والسبب بسيط للغاية: الولايات المتحدة وحلفاؤها لا يرون في أوكرانيا حليفاً استراتيجياً مهماً، وقد أثبتوا هذا في عدم رغبتهم بمساعدتها عسكرياً. لذا سيكون من الغباء بمكان، إنشاء حلف مع دول غير مستعدة للتعاون عسكرياً. وسعت منظمة حلف شمال الأطلسي في الماضي إلى التوسّع لأن الليبراليين افترضوا أنّ هذا التحالف لن يمسّ أبداً ضماناتهم الأمنية، لكن وَضْعَ أوكرانيا في هذا الموقع، وأمام هذا الخيار، وَضَع روسيا والغرب في مسارٍ تصادميّ.

إن التمسك بسياسة كهذه سيجعل العلاقات الغربية مع موسكو مأزومة على عدّة مستويات أخرى. فالولايات المتحدة تريد من روسيا مساعدتها في سحب معدّاتها من أفغانستان عبر أراضيها، والوصول إلى اتفاق نووي بشأن إيران، واستقرار الوضع في سورية. وفي الواقع، فإن موسكو ساعدت أميركا كثيراً في هذه القضايا في الماضي ففي صيف عام 2013 تحاشى بوتين الضربة العسكرية التي هدّده بها أوباما. إذ تحتاج الولايات المتحدة روسيا يوماً ما في احتواء الصين المزدهرة. إن سياسة الولايات المتحدة حالياً تقود إلى تحالف أقوى بين موسكو وبكين.

تقف الولايات المتحدة الآن مع حلفائها الأوروبيين موقف الاختيار في ما يخصّ أوكرانيا. فإما أن يستمرّوا في اتّباع سياستهم الحالية، التي ستفاقم القتال بين روسيا وأوكرانيا ـ وهو سيناريو سيخرج منه جميع الأطراف خاسرين ـ أو انهم يعملون على إنتاج أوكرانيا محايدة مزدهرة، لا تهدّد روسيا ولا تطيح بعلاقات موسكو مع الغرب.

مع هذه المقاربة سيربح الجميع.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى