هل يؤدّي انهيار الطبقة الوسطى اللبنانية إلى انفجار سياسي؟
د. وفيق إبراهيم
تجزم العلوم الاجتماعية الحديثة أنّ الانهيارات في صفوف الطبقة الوسطى تؤدّي في غالب الأحيان إلى انفجارات ذات طابع اجتماعي وسياسي، وتستدلّ بصحّة هذا الأمر على سلسلة الحروب الداخلية في معظم بلدان أوروبا وأميركا.
قد ترتدي هذه الانفجارات شكل حرب استقلال أو شكل حروب على الأغنياء، لكنّها تخفي دائماً صراعاً له نكهة طبقية بين من يسطو على وسائل الإنتاج وبين من يسعى إليها أو إلى تحريرها على الأقل.
ما يجري في لبنان مشابه لهذه المعادلة، واستناداً إلى منسقيّة الشؤون الاجتماعية في منظمة الأمم المتحدة، فإنّ ثلاثين في المئة من اللبنانيين هم تحت «خط الفقر»، أي يعيشون بأقل من خمسة دولارات يومياً، إلى جانب عشرة في المئة يقبعون في «فقر مدقع»، أي لا يعرف أحد كيف يعيشون. يُضاف إلى ذلك نحو ثلاثين في المئة يتربّعون في خانة «الفقراء الطبيعيّين»، فيتبقّى ثلاثون في المئة فقط يشكّلون مجمل الطبقة الوسطى والأغنياء.
ماذا تعني هذه الأرقام؟ باللغة العلمية إنّها تكشف عن كارثة اجتماعية لم يسبق لدولة لبنان الكبير أن مرّت بمثيل لها. لقد سقط عديد الطبقة الوسطى اللبنانية من 55 في المئة إلى 15 في المئة فقط، إلى جانب 70 في المئة من فئات فقيرة متنوّعة، و15 في المئة من الموسرين الشديدي الثراء. وهذا انهيار دراماتيكي يؤدّي في البلدان الطبيعية إلى انتفاضات كبرى، لكنّه يصبح قابلاً للّجم في بلد مثل لبنان لأسباب إقليمية وطائفية.
فما هي إذاً أسباب هذا الانهيار؟ هناك من يرمي الكرة في ملعب قطاع الخدمات، معتبراً أنّ إقفال الحدود اللبنانية بسبب الأحداث المندلعة في سورية تسبّب بتراجع الطبقة الوسطى. وهو رأي على جانب من الوجاهة، لأنّه أدّى إلى تراجع صادرات البلاد، لكنّ التجار والوسطاء عوّضوا عنه باللجوء إلى النقل الجوي المباشر من المنتج الأجنبي إلى المستهلك العربي، أو من لبنان إلى الخليج عن طريق الجو، لذلك يمكن تحميل الحدود قسماً بسيطاً من الانهيار الداخلي.
أمّا السياحة، وهي أحد عناصر قطاع الخدمات، فلا تزال ناشطة بين صعود وهبوط، ما يعني أنّ مؤسساتها في لبنان تعمل بنشاط… بالمقابل، وسّعت المصارف أعمالها وأكثرت رساميل لم يسبق لها أن حازت عليها من قبل، وانتشرت في معظم أنحاء لبنان وسجّلت أرباحاً هائلة من لعبة شراء المال من الناس بفواتير زهيدة وبيعه للدولة مقابل فوائد لا مثيل لها من قبل، ومنها سندات الخزينة الذائعة الصيت.
يتحمّل تراجع قطاع الخدمات إذاً تراجعاً نسبياً في مستوى التقلّص الطبقي، لكنّه ليس الضربة القاصمة. وللأسباب الأخرى علاقة بنويّة أكبر بالسقوط الطبقي… بدأ الموضوع يوم نجحت الكونفدراليّة الطائفية الحاكمة بالسيطرة على النقابات والإعلام والدين، فتمكّنت من المجتمع وطوّعته، ووضعته في أجواء من الذعر المتبادل بين فئاته ومكوّناته، وانطلقت في سياسات اقتراض خارجية وداخليّة، كان يُفترض أن تكون في سبيل الإنماء الداخلي الذي يُغني عادةً البيئتين الماديّة والاجتماعية، لكنّ النتائج جاءت مخيّبة للآمال. لم يتمّ صرف أكثر من تسعة مليارات دولار على البنية الأساسية، ومجمل ما تمّ إنشاؤه إنما جاء لمصلحة توسيع نفوذ الفئات الحاكمة من سوليدير ومطار وطرقات تؤدّي إليها. لكن ما يهمّ المواطن من مياه وكهرباء وتعامل حضاري مع مشكلة النفايات والأمن، لم يتمّ التعاطي معها بمسؤولية، وتحوّلت إلى مواد للسجال الإعلامي والمزايدات الرخيصة.
إنّ حجم الديون العامّة فاق السبعين مليار دولار في بلد لا يتعدّى ناتجه الوطني عشرة مليارات دولار، علماً أنّ بلداً كالولايات المتحدة الأميركية انكفأ إلى الداخل الأميركي عندما زادت ديونه العامّة مرّة ونصف عن إنتاجه الوطني، فأوقف حروبه المباشرة للتوفير والتقنين بعد أن عَهَدَ بها إلى وكلائه الإقليميّين. فكيف يمكن لبلد مثل لبنان أن يتحمّل دَيناً يفوق سبع مرّات ناتجه الوطني ولا يرفّ رمش مسؤول من مسؤوليه الذين يبدون وهم يلقون خطبهم زعماء وطنيّين على درجة عالية من النزاهة والمسؤولية!
ويكفي للكشف عن عمق المأساة، أنّ القطاعين العام والخاص لم يحوزا على زيادة أجور منذ عقد تقريباً، في حين أنّ النوّاب حازوا على زيادات خرافية أكثر من مرّة. وتسجّل المصارف التي يمتلكها سياسيّون أو يشاركون في أسهمها أرباحاً غير طبيعية لا تقبل بالمساس في أيّ جزء منها. وحتى حين حاولت الدولة وضع ضريبة على أرباح المصارف، جوبهت بالصدّ فتحوّلت لمحاولة وضع ضرائب على الودائع.. وتلقّت أيضاً صدمة مماثلة، ما يعني أنّ الدولة التي يمتلك مسؤولوها أسهماً في المصارف، تعجز عن وضع ضرائب عليها. وهذا أمر طبيعي جداً.
هناك إذاً نحو خمسين مليار دولار ديوناً عامّة لا أحد يعرف كيف جرى إنفاقها، أو بالأحرى تقاسمها. اسألوا أحد رؤساء الحكومة السابقين الذي كان مديراً لأحد المصارف أين ذهبت هذه الأموال، وهو ليس مجبراً على الردّ لأنّ لا أحد يحاسبه.
وبالاستنتاج، يتبيّن أنّ إقفال الحدود وفساد الطبقة السياسية والمصارف، من العناصر الأساسية التي لعبت دوراً أساسياً في انهيار الطبقة الوسطى، من دون أن ننسى السطو الرسمي على أنواع المساعدات التي ترد إلى لبنان بأشكال مختلفة، وصولاً إلى المال السياسي الذي تسطو عليه السياسة وتجيّره لتوسيع نفوذها. كما أنّ السيطرة المطلقة للفئات السياسيّة النافذة على مناطقها الجغرافية تدفع المؤسّسات الوطنية الوسطى إلى الإقفال والفرار في غياب دور الدولة في الحماية وتعزيز الازدهار.
هل يوجد بلد في العالم يضع سياسيّوه شروطاً على المغتربين الذين يريدون استثمار أموالهم في مناطقهم؟ وهذا يشمل الأراضي اللبنانية كلها من دون استثناء وهي شروط تتعلّق بمنحهم حصصاً في المؤسسات المنوي إنشاؤها تحت طائلة المنع والتهديد الأمني، ألا تؤثّر هذه السياسات على الاستقرار الاقتصادي اللبناني ودور الطبقة الوسطى اللبنانية؟
والملاحظ أنّ الفئات السياسيّة انتهكت الإدارات العامّة كلها، وعيّنت الآلاف من أنصارها في وظائف لا علاقة لها بها، فأرهقت موازنة الدولة على حساب الكادرات الملائمة من الطبقة الوسطى ذات الكفاءة، وطردتها من هذه المؤسسات، وفعلت أمراً مشابهاً في الجامعة اللبنانية التي كان موكلاً لها إنتاج الطبقة الوسطى اللبنانية باعتبار أنّها جامعة مجانيّة ذات مستوى، أدّت دوراً كبيراً منذ الستينيات في ولادة طبقة وسطى لبنانية متخصّصة، لكن وضع يد الفئات السياسيّة على هذه الجامعة الوطنية، شرّع أبوابها أمام المستويين التعليمي والإداري، وتحوّلت بالتالي هذه المعاهد والكليات على طول مساحة لبنان إلى أوكار للمذاهب والطوائف تمارس فيها توحّشها في تحويل التعليم إدارات لتوزيع الشهادات والوظائف والمحسوبيات والسطو.
هذا ما أدّى إلى تقلّص الطبقة الوسطى التي تشكّل ميزان الاستقرارَين الاجتماعي وبالتالي السياسي. فالفقير يشعر بقدرته على التطوّر نحو الوسطى، وابن الطبقة الوسطى يشعر بالأمان موفّراً للدولة استقراراً سياسيّاً. وللإشارة، فإنّ السمة البارزة لبلدان العالم الغربي هي اتّساع إطار طبقاتها الوسطى، لذلك فهي تدقّ ناقوس الخطر عند حصول تقلّص في إطارها وتعمل على معالجته.
فكيف يعالج لبنان الرسمي تراجع عديد هذه الطبقة؟ التجاهل والقمع سمتان أساسيّتان تستمدّان قوّتهما من الفتنة السنيّة الشيعيّة، وما تدفع إليه من انضباط في الإطار المذهبي، فيصبح الانتماء المذهبي أهم من الصراع الطبقي والوطني، والخوف من الآخر أهم من تقلّص كميّات الطعام وتعليم الأطفال والاستقرار المنزلي. وما يؤدّي إلى نجاح هذه الخطة هو دور المؤسسات الدينيّة العاملة على تأكيد الوضع القائم بسلسلة فتاوى وعظات تؤكّد على الخلاف مع الآخر والحذر منه في كل وقت.
وترفد مؤسسات الإعلام هذه اللعبة، فتنشر وتذيع ما يؤكّد على الفتنة الطائفية بطرق غير مباشرة في معظم الأوقات، عن طريق تنظيم إعلام مذهبي يثير الشارع ويؤجّل الصراع الطبقي إلى أجل غير مسمّى. أمّا السبب الأخير لمنع الانفجار الداخلي، فله علاقة بالصراعات الإقليمية التي تثير رعب اللبنانيّين، فينقسمون حولها على أُسُس مذهبيّة وطائفية، ما يعزّز دور الفئات الحاكمة في إسكات الطبقات الوسطى من دون الحاجة إلى قمعها إلّا في بعض الأحيان.
ويبدو أنّ الانفجار الاجتماعي في لبنان لم يعُد بعيداً، لأنّ اتفاق قوى الإقليم على تهدئة لبنان بدأت بالاهتزاز، فهل تبدأ الدولة بمعالجة الخلل الطبقي قبل استفحاله؟
من المستبعَد أن تلغي الطبقة السياسيّة نفسها بإلغاء نفوذها، لكنّها قد تلجأ إلى خطوات «ترقيعيّة» لإرجاء الانفجار. فهل تنجح محاولاتها؟
الانتقال من المذهبية إلى الوطنية مع مكافحة الفساد هما الوسيلة التي تمنع الانفجار، لكن قوانين الصراع الاجتماعي تؤكّد أنّ الانفجار آتٍ ولو تأجّل إلى حين.. لكنّه ينتظر اكتمال شروطه الداخلية والإقليمية.