حين تبكي الألوان غياب مَن تعمَّد بها… تصبح اللوحة حكاية عشق ومجدٍ
عبير حمدان
ليس من الضروري أن تعرف المبدع شخصياً كي يتمكّن منك شبح الغياب، يكفي أن تدرك بعضاً من السحر المتنقّل على أطراف الريشة المنغمسة بتشعّبات المرجان والغافية على طرف قوس قزح والثائرة كصهيل خيول تقارع الريح، كي تشعر بأن الفنّ بات حزيناً في وداع قامة عليا كوجيه نحلة.
هو الذي شيّد عالمه الخاص، بحسب مَن غاص في خفايا خطوطه الاستثنائية وكان من رواد الفن التشكيلي في لبنان والعالم، ربما لأن الأرض التي أنجبته تختزن السحر حتى الرمق الأخير.
إبن هذه الأرض المثقلة بالحكايا عانق اللون وتمسّك بالريشة المجبولة بالدهشة، فكانت الهوية أبعد من حدود المكان، لعل رؤيته الفنية جزء من نبع تدفّق وامتدّ إلى العالم. ومن هنا ينال الفنان صفة التميّز، هو الحرّ في نثر أحلامه على القماش الأبيض. هذه الأحلام التي تخطّت زمنها لتصبح جدارياته محط اهتمام عالمي. انبعاث الروح لديه جعل من قيامة المسيح لوحة زيّنت الفاتيكان، والألق الساكن بين خطوطه منحه الجوائز المحلية والعالمية.
نعى وزير الثقافة غطاس خوري الفنان التشكيلي وجيه نحلة الذي وافته المنية عن عمر ناهز الـ85 عاماً.
وقال خوري في بيان: «برحيل الفنان وجيه نحلة تفقد الساحة الفنية التشكيلية أحد أهم روادها الأوائل الذين عملوا على إدخال تيار الحداثة الفنية التشكيلية في لبنان، ريشة نحلة حلقت عالياً وفتحت آفاقاً جديدة حتى وصلت العالمية، لذا ستبقى لوحاته محط أنظار ومرجعاً لكل فنان تشكيلي في لبنان والعالم.
نتقدم من عائلة الراحل، ومن الفنانين التشكيليين وجميع اللبنانيين بأحرّ التعازي سائلين المولى أن يتغمّده بواسع رحمته وان يلهم أهله ومحبيه الصبر والسلوان».
كما نعته نقابة الفنانين المحترفين في لبنان، وفي بيان لها قالت: «إنه أحد أبرز أعضائها، الرائد المبدع في عالم الريشة واللون، صاحب اللوحة المتكاملة والباحث دوماً عن لون لا وجود له».
خيرالله: قامة إبداعية متميّزة
اعتبر عميد الثقافة والفنون الجميلة في الحزب السوري القومي الاجتماعي الدكتور خليل خيرالله أن رحيل الفنان المبدع وجيه نحلة خسارة كبيرة للحرف واللون والكلمة والإبداع، لافتاً إلى أن الراحل ترك بصمة كبيرة في الحياة الفنية والثقافية لكونه رسّخ مبادئ فنية منطلقة من عمق الحضارة الإنسانية لاسيما الحضارة المشرقية.
أضاف خيرالله: «إننا إذ نفتقد قامة إبداعية متميّزة منحت الفن التشكيلي هوية متفرّدة، فإننا ندعو دائماً إلى استلهام هذه الهوية للارتقاء بالقيم الفنية والثقافية والاجتماعية والإنسانية».
حمود: سفير اللون
رأى الزميل والفنان عبد الحليم حمود أن وجيه نحلة حالة فريدة لكونه جمع النخبوية والشعبية في حزمة واحدة. وكان عمود الخيمة للتشكيل اللبناني. وفي مناسبة الرحيل قال حمود: «من محترف مصطفى فروخ كان تفتّح العين على الرسم من منابعه، فكان وجيه نحلة خير سفير للون. من المرحلة الحروفية الزخرفية الأولى الى فضاءات التجريد الحر كأنه يبث فراشاته على القماش. بهذا استطاع جمع الحالة النخبوية والعادية في حزمة واحدة حتى اتهمه البعض بمراعاة الذائقة الشعبية. لم يكترث، تابع ولم يمتثل بل تضاعفت جدارياته حتى اقتنتها جهات عربية وعالمية عدة، ولا ننسى لوحة قيامة المسيح وهي من مقتنيات الفاتيكان. حامل الأمانة من فروخ سلّم الأمانة إلى أولاده الذين يرسمون جميعهم من دون استنساخ. أكاد اقول ان وجيه نحلة عمود الخيمة للتشكيل اللبناني، ولأننا في بلد الفينيق فسينبعث اللون الف مرة على الف جدار».
قاصوص: قامة فنية لا تتكرّر
من ناحيته تحدّث الفنان السوري هادي قاصوص عن وجيه نحلة المجبول بالعطاء والرائد في مجاله الإبداعي، فقال: «وجيه نحلة قامة فنية تشكيلية في تاريخ لبنان العظيم بأفقه وجبله وبحره. لبنان البلد الذي أنجب المبدعين على الدوام وكان وجيه نحلة من رواد الفن التشكيلي الذي لعب دوراً كبيراً في النهضة الفنية والثقافية في لبنان واستطاع إيصال ألوانه إلى العالم. كيف لا وهو الذي ساهم في تطوير اللوحة التشكيلية. لوحته عبارة عن حوار فني ولوني مضيء يرسم من الذاكرة المقيدة بـ«الأرز» والعنب والتاريخ. له في كل مناسبة أو فعالية فنية البصمة المشرفة، وجيه نحلة مفتاح عطاء لم يبخل يوماً في احتضان جميع التشكيليين العرب، وكان يتواصل مع الجميع مقدّماً النصحية والتشجيع والاهتمام. هو قامة لا تتكرّر وتبقى لوحاته شاهدة على عمق إبداعه».
حمود: لوحته إبنة الدهشة
تستحضر الناقدة والفنانة زينب حمود اللون واللغة الوجدانية في رثاء وجيه نحلة الفنان الاستثنائي، فتقول: «عندما یرحل الكـبار تذرف الطبیعة دمعها ویصیر القزح نجمة حمراء. وها هوذا وجیه نحلة الفنان العبقري یغادر حاضرة الحیاة الی حضرة الخلود تاركـاً أكـثر من عشره آلاف لوحة في الأسالیب الفنیة كافة.
غادر بصمت القدّیسین بعد معاناة مع خبیث لم یمهله. هو المولود فی بلدة العدیسة الجنوبیة العام 1932. مسیرته الفنیه غنیة بالإبداع. كـانت شاقة وسعیدة في آن، بنی لوحته، كـما یبني العصفور عشه..
ینتظر بزوغ القمر یتأمّله، یراقبه، یحاوره، یمسك بخیوطه ویختزنها في أعماقه، ومع انبلاج الفجر تتحول الخیوط لوحة طیفاً من لون، لا بل من ألوان وأنوار وأحصنة وعرائس بحریّة شمسیّة، وجنیّات طالعة من جینات كـونیة متألقة. هناك مَن كـان یحرّض هذا الفنان علی النور واللوحة.. هناك مَن كـان یوحي له بوضع ألوانه. ونحن صدّقنا ذلك لأنه اعترف لنا بهذا فألوانه معجونة بسحر ما، بطلاسم ودهشة، ولكـن من أین یأتي بهذا الوحي؟ أجابني مرة: «عوالمي لیس لها حدود. لا أتأثر بتعب الجسد ولا بجغرافیا الأمكـنة. أنشد معزوفتي اللونیه حتی أمام الناس وفي الأماكـن المغلقة، في الطبیعة فأنا أسوح وأنثر طیف لوحاتي متجاوزاً ذاتي .. والأنا انخطف، أنشغل بعوالم من نور تسكـن اللحظة في أوان الأبداع».
إنها حالة التصوّف والانعتاق، من المكـان من الزمان.. من الذات عاشها هذا الفنان وترك أعمالاً متجلیّة خلاقة نبتت في الإبهار. وانتشرت وصولاً إلی اللامنتهی وجیه نحلة. غادر، كـان خلاقاً، استثنائياً، لوحته إبنة الدهشة.
عباس: اساتذنا في نقاء اللون
أعتبرت الفنانة أحلام عباس أن الغياب لا يتفوّق على رقي اللون الذي ارتبط به وجيه نحلة. وعنه تقول: «لكل ريشة وقت تركن فيه إلى غياب، كل رواد وعظماء الفن سابقاً رحلوا إلا أن أصوات رقي أعمالهم في الخط واللون بقيت تخبرنا قصص وحكايا الإبداع.. وجيه نحلة بيتهوفن اللون، باقية موسيقاه ما بقيت الحياة أساتذنا الأول في سرد نقاء اللون يُخبرنا الجرأة والحنكة واللغة بين الفنان واللوحة والجمهور. لأستاذنا ألف رحمة ودعاء من القلب أن ترقد روحه بسلام، ولأهله ولنا الصبر على الفراق وفقد حضوره بيننا».
حجازي: صاحب البصمة الخاصة
من ناحيته رأى الدكتور محمد حجازي رئيس قسم الفنون السابق في الجامعه اللبنانية أن أعمال وجيه نحلة طبعت بصمة خاصة في تاريخ الفن: «أعمال وجيه نحلة تعزف سيمفونية اللون بين حكايا الروح والرقي الإنساني. له بصمة خاصة فيها ما ورائية البعث الأبدي اللوني يختلف عن رواد جيله، وله جمهور عاشق وطلاب حتى اليوم يرسمون بصوت إبداعه. وجيه نحلة له كل التقدير والدعاء أن ترقد روحه بسلام، ونتمنى أن يكون له متحف خاص بأعماله ومتابعة توثق سيرة حياته وأعماله الفنية».
فياض: أعماله خالدة في قلوبنا
اعتبرت الفنانة فريال فياض مسؤولة العلاقات العامة في منتدى كل الألوان أن رحيل الفنان وجيه نحلة خسارة كبيرة لكل من يتذوّق الفن في لبنان والعالم، وقالت: «خسر لبنان علماً من أعلامه، هو الرمز الفني الكبير، خطوطه وألوانه أغنت الفن التشكيلي بأعمال خالدة ستبقى في قلوبنا وقلوب كل مَن يتذوق الفن الراقي. وجيه نحلة اسم يختصر حقبة ذهبية من تاريخنا الفني، إنه نبض اللون وريشة الخالق على الأرض، ويبقى الحلم الذي لا يتكرّر. ونحن في منتدى كل الألوان كان لنا شرف تكريمه عام 2015 في معرضنا «الألوان كمنتدى فني وثقافي» وكان متابعاً لكل إنجازاتنا ومنحنا الكثير من الدعم».
الحاج حسن: همزة الوصل
اعتبر الدكتور طلال الحاج حسن أننا برحيل الفنان وجيه نحلة فقدنا همزة الوصل بين التراث العربي والحداثة. فقال: «نفقد اليوم رائداً من رواد الإبداع العربي الحداثي. إن الفنان وجيه نحلة كان حلقة وصل بين التراث العربي الأصيل والحداثة بما تعنيه، حيث ترك تراثاً فنياً زاخراً للأجيال القادمة وهمزة وصل بين الماضي والحاضر».
التشييع
يشار إلى أن الفنان الراحل سيشيع اليوم في روضة الشهيدين عند الساعة الحادية عشرة والنصف.
نحلة والجوائز
جائزة وزارة التربية الوطنية العام 1965، جائزة متحف سرسق – جائزة بينال الإسكندرية، جائزة بينال الدول العربية في الكويت، جائزة الغران باليه في باريس، جائزة متحف متروبو لبنان في نيويورك، وسام الاستحقاق اللبناني للآداب والفنون، جائزة معهد العالم العربي في باريس، جائزة متحف الفن الحديث في تونس، وسام السعف الذهبي من بلجيكا، الجائزة الكبرى للمعرض السادس والستين للفنون التشكيلية في باريس.