منشورات «دار أصالة» للأطفال… متعة القراءة ورسائل تربوية 4
النمسا ـ طلال مرتضى
نتابع في هذه الحلقة، الإضاءة النقدية على بعض إصدارات «دار أصالة» اللبنانية، التي تُعنى بالأدب الموجّه إلى الأطفال والناشئة.
«أنا أيضاً ذكي»… دليلكَ إلى النجاح
نعم هو أيضاً ذكي ومن دون منازع، والمسؤولية لا تقع على عاتقه وحده كطفل، المعادلة تقول حامل الطفل الرئيس، هو أسرته بالمقام الأول ثم يأتي دور المدرسة، حيث يلتقيان معاً ليشكلا الحامل الكلي للطفل.
قصة دنيازاد السعدي، «أنا أيضاً ذكي» تتموضع في هذا السياق. أي تنمية الطاقات الفكرية لدى الطفل وتفجيرها، لتصير رصيداً مخزوناً كتأسيسٍ لحياة ناجحة بكل علائِقها وانشغالاتِها.
من المسالك التربوية في دول الغرب أنهم ينمّون ميول الطفل التعليمية ويعملون على تطوير مهاراتهم بما يتساوق مع حالة الوعي لديه.
لذلك نجد هنا ـ في الغرب ـ الكثير من الحالات الإبداعية الفاعلة. بالطبع لأنهم عملوا على دعم هذا الطفل ليكون لبنة فاعلة.
على عكس المنهجية السائدة وأسلوب التلقين الببغائي، وهي جعل الطفل يلهث بكل السُبُل لتحصيل معدل في مواد قد لا يستسيغها ومن دون فهمٍ في أغلب الأحيان، لكنه مجبرٌ على حفظها لا لشيء سوى لأنها الوسيلة الوحيدة التي توصله، على سبيل المثال لا الحصر، إلى كلية الطب أو الهندسة.
وهنا أشير إلى أن الحفظ غير الفهم. وأكن تُغفل هذه النقطة وهنا الطامة الكبرى، وهي عدم التمييز بين الشخص الذي يحفظ لمجرد الحفظ، مثل «ميموري كارد» Memory Card وبين الآخر المتعمق في تحليل ما تعلمه، وليس من العجب حين نسمع عن الكثير من الأخطاء الطبية أو حتى في كل القطاعات العامة
في هذه القصة التي يُجسِّد بطولتها، الصغير نادر، «أنا أيضاً ذكي» خير دليل، فهو لا يستطيع استيعاب مادة الحساب أبداً، ما يسببُ له الكثير من التشتت والحرج.
ويقفز سؤالٌ إلى أذهاننا، غاية في الأهمية هل نادر طفل فاشل فعلاً؟
فنجد الأجابة وقد مررها الكاتب في سياقِه السردي للحكاية، في منحيين مهمين.
الأول هو دعوة الأهل والمدرسة للتكاتف معاً لإيجاد طريقةٍ سلسة من شأنها تنمية الإدراك الحسي لدى الطفل ما يساعده في التغلب على صعوبة التلقي وتلافي تراجعه في هذا المضمار. كما حصل مع «نادر» الذي لا يستوعب مادة الحساب ولا يحبها.
والثاني، المبادرة إلى زرع روح الثقة لدى الطفل، أي أن عدم فهمه لمادة الحساب مثلاً، لا يعني الفشل الكلي. وهذا ما حصل عندما استطاع «نادر» تركيب قطع المصباح الكهربائي الجديد بعد فشل أخيه الكبير «سامي» في ذلك.
وهنا أخلص بالقول، إن الكاتبة استطاعت تمرير فكرتها بأسلوب سهل ومبسط، عميق وهادف، ليصار إلى سهولة التقاطها.
فنياً أتى معمار القصة متهادياً مع أناه بفاعلية حوارياتها ودلالة إشارات المخاطب، التي كانت بمثابة ضخ دماء جديدة بِأوردتها.
«أين ضاعت؟»… المستهلّ والدلالات
تبدأ الحكاية من حيث دلالة العنوان، «أين ضاعت؟» فالشروع بالسؤال هو من صلب الحدث. وهو ما يُدخل القارئ معه في بوابات أسئلة أخرى ما الذي ضاع؟ هل فقد أحدهم كنز مثلا أو ربما أضاع صغير ما لعبته أو كلبه الذي يربيه في المنزل؟
تلك الأسئلة وحدها هي الحامل لأي أقصوصة أطفال أو «حدّوتة». وأقلُّها بأنها ستكون الخيط الرفيع الذي يجرنا نحو الولوج إلى تفاصيل القصة ذات الصلة.
حين حمل «كريم» الناشئ مسؤولية شراء الخبز يومياً من مخبز القرية، ليصار في إحدى المرات ان يتدخل في فكِّ عصفور عالق في خيوط متشابكة عند أشجار الزيتون. وبعدما ينهي المهمة ويحرره ثم يطلقه للهواء يُكمل مشواره لابتياع الخبز. وليُفاجأ بأنه قد أضاع ثمن الخبز، وهذا ما جعله متردّداً خوفاً من تأنيب والده. قرر العودة عبر الطريق التي أتى منها للبحث عن الورقة النقدية وبينما هو سائر في طريق البحث رأى عجوزاً تحاول رفع بعض الأحمال فوق دابتها، فتوجه نحوها وساعدها لينتهي الأمر بحصوله على مكافأة من العجوز. في الوقت ذاته كان بائع الخضار يقوم بتنزيل كُرات الملفوف الاخضر من الشاحنة حيث طلب منه أن يساعده، وهذا أيضاً جعله يحصل على مكافأة إضافية.
ويعود إلى المخبز ليشتري الخبز، فيجد ورقته النقدية حيث اشجار الزيتون.
لكنه فوجئ بحنقِ الأب وقلق العائلة بسبب التأخير. وحين قص له الحكاية، شكره كثيراً وشعر بالزهو لأن «كريم» الصغير، بدأ يتلمس الدرب لتحمل المسؤولية. هنا الصنارة التي أراد الكاتب الغمز من خلالها.
انطباعياً استطاع الكاتب تمرير مقولته بيسر. حاول الروي والحواريات داخل نص الحكاية دونما تكلف أو استعمال كلمات منحوته مُنفِّرة. بل جاءت منسجمة وسَلِسَة بفاعلية التشويق عندما جعلنا نلهث للحصول على خاتمة تُروي شغفنا.
«بدر ذو الرجل الواحدة»… تمسرح الحكاية أسهل!
إنَّ أنجع الطرق وأسهلها لإدخال فكرة ما في ذهن الطفل هي المخاطبة المباشرة بالطرق المحببة إليه. وتلك فعالية تحتاج إلى تمرس ودراسة لقراءة الطفل ذاته، لفتح معبر للتواصل معه لا يتعدى حجم استيعابه.
في قصة «بدر ذو الرجل الواحدة» والتي شارك في تأليفها كل من د. ريتشارد سبيكر ود. هنادا طه، ومن خلال اجتراع جديدة وهي الروي عن الراوي بفاعلية الحواريات لتحريك الحدث وجعل من الحوار أقصوصة يستسيغ الطفل ترديدها، كما فعلوا.
يقول بدر لأمه: صباح الخير يا ماما.
تقول الأم: صباح الخير يا بدر.
وأيضاً: بدر يلبس الآن بنطاله برجل واحدة. وكذلك جورباً واحداً وفردة حذاء واحدة.
كذلك: بدر يقفز وهو يمشي برجل واحدة وعكاز.
إلى أن ينتهوا: بدر عند الطبيب لتركيب رجل اصطناعية. بدر يمشي من دون عكاز. بدر يلعب ويذهب إلى المدرسة.
ربما لمن تتبع سرد قصة بدر الصغير لا يقبض على شيء أو ماهية الحكاية المراد توصيلها. فالحدث كان عادياً، فبدر طفل يعيش برجلٍ واحدة ويستعين بعكاز يمشي ويمارس حياته العادية، إلى أن يقوم الأهل بتركيب طرف صناعي بديل للرجل الناقصة.
وهنا أقول إن السرّ في القصة هي قراءتها بالملامسة المحسوسة، وأن مؤلفَيْها وعن دراسة جادة استطاعا جرياً لترديد، ما يقولون بالحوار من دون أن أدري.
بدر يقفز مع الأولاد.
بدر يلبس فردة حذائه الوحيدة.
بدر.. وبدر.. الخ.
والغاية هنا إيجاد طرق سلسلة لجعل الطفل يحفظ من دون تكلّف أو عناء. حين مسرحوا حكاية «بدر» والتي يمكن ترديدها بحوارية غنائية جميلة وماتعة
«بو!»… البحث عن مفاتيح التغيير!
تنطلق عائشة الحارثي من زاوية مغايرة هذه المرة لتدخل بهو الحكاية من بابها العالي المحمول بغواية الخيال. وهنا يكمن بيت القصيد عندما يبرع الكاتب وخصوصاً عندما يتعاطى في منتجه مع فئة عمرية لها خصوصيتها ولها مداخيلها المواربة كالاطفال، وذلك حين ينحو نحو توظيف فعالية التخيل في بناء أقصوصته، أي مزج فكرة القصة الحقيقية بما هو متخيل لتتجلى الحكاية مكتملة وباهية.
أرادت الكاتبة من خلال قصة «بو!» أن تمدّ أصابع شغفها لتأسيس مقولة خاصة بها، ثم تؤسّس لطريق جديدة من دون الانخراط في إعادة وتقليد تجريبات سابقة وقولبتها بأطارات تخصها هي. بل شرعت نحو رسم خط يقدمها هي، وقد أجادت في افتعالها الجديد عبر «بو!» بطلها الخيالي والذي يتسلل إلى نوم الأطفال الحالمين ليفسد أحلامهم الجميلة ويحولها إلى كوابيس مزعجة، لا لغاية سيئة، فقط هو لا يجيد الا تلك اللعبة. فهو يعرف من هم الأطفال الذين يحلمون فَيَندَسّ بينهم ليتوقف بين عيونهم ويقطع عليهم حلمهم بقوله في وجوههم: بو بو بو بو بو.
لكن إلى متى يبقى «بو!» أمراً مؤرّقاً ومزعجاً؟
وحدها «نور» الطفلة تقف في وجهه وتصارحه: الكلّ يكرهك يا «بو»! أنت سيّئ جداً.
«بو»: لكنني لا أعرف غير تلك اللعبة وأحبها!
«نور»: لماذا لا تأتي في النهار وتلعب معنا بدل أن تتسلل وتخيفنا؟
أليست تلك الكلمات كافية لتغير مجرى حياة «بو»؟
بالفعل «بو»، لم يواجهه أحد من قبل أو يعترض عليه لذلك أصبح تخويف الأطفال لعبته المفضلة. وهذا ما حدا به أن يفكر مليّاً ويبدأ نحو التغيير الذي قلب كل الموازين.
وهذا ما أرادت الكاتبة الحارثي الوصول إليه، التغيير، نعم التغيير وليس سواه. لكن بالاقناع والحجة وليس التغيير القسري الذي يزيد من تعنت الأشخاص، بالحسنة والكلمة الجميلة، حيث أن الموروث الشفوي لنا لم يترك شيئاً الا ويقول عنه. كما حالنا بقصة «بو!»، ألم يقل المثل: الكلمة اللطيفة تخرج الأفعى من جحرها؟
فنياً، تمتّعت الأقصوصة بنقلات رشيقة وغير متكلفة، بحيث لم أشعر بأن بطلها هو حالة متخيلة ليس إلا، ولغة سهلة ممتنعة تناسب كل الفئات العمرية.