الشاعرة مي الأيوبي لـ«البناء» قبل انخطافها غياباً: الفطرة ألزم للشاعر ليكون.. هي بدء الصلب ومنها انطلاق الجلجلة
حوار وتقديم: هاني الحلبي
ليسوا قليلين الذي ظفروا بمعرفة شاعرة الألواح الدكتورة مي الوجيه الأيوبي! لكنْ قلّة من سبروا عالمها النوراني..
قامة لغة، همسة شعر، بسمة وجع، دماثة خلق، ضحكة ربيع، شباب قلب، وعبث محبَّب، وعِلم لا يتوقف عن الاغتناء..
جمال الفقر أغناها بما لا يوازى، وحلاوة تشرّد أسرتها جذّرتها في المكان.. وحماوة الوجع جوهرتها نبضة في قلب الأمة وقصيدة في روحها..
أمس، انخطفت مي، من بين غيابنا لتكون الحضور..
اليوم بدأت حضوراً لا يعرف الغياب.. سوى استرجاعها نبض أرواح شهداء، نشيداً لنسور الزوبعة، قصائد منتظرة لإنسان آتٍ، وتراتيل حدي لفجر جديد..
اشتاقت لحبيبها الفنان بسام جمال الدين شريكها الكامل ومبكاها القومي.. فرحلت إليه لزفاف آخر بلا مدعوّين.. لكنها تركت لنا قصائدها بطاقة دعوة مجانية..
هل تحضرون.. أقرؤها.. لتصعدوا!
د. مي، نعرِّف قراءنا إليك؟
– مي الوجيه الأيوبي، شاعرة من الكورة، نلتُ إجازة في الأدب العربي، ثم دبلوماً في فقه اللغة المقارن من الجامعة اللبنانية، ودكتوراه في علم النفس التربويّ من الجامعة العربية في بيروت، وعملتُ في التدريس بين لبنان ودولة الإمارات العربية، وأنشط ثقافياً عبر صالون ثقافي أدبي منذ سنوات، مركزه في منزلي في قرية عفصديق – قضاء الكورة.
كيف ترين إلى الشعر؟
– الشعر فطرة يلزمها تحصيل ودربة. الدربة والثقافة الشعرية تغنيان الشاعر وتكسبانه مادة وأدوات، لكنهما لا توجدان فيه الفطرة اللامعة. الفطرة ألزم للشاعر ليكون شاعراً. هي بدء الصلب ومنها انطلاق الجلجلة.
برأيك ما علاقة القصيدة بذات الشاعر؟
– برأيي ذات الشاعر هي نواة القصيدة، ففي كل قصيدة أنا مفتاحُها وسرُّها ونواتُها التي تشكّل كينونتها، والقصيدة نسيجي الحميم ومادة طبيعتي.
ألواح طينية شعراً.. من سومر للكورة
لماذا سمّيت كتبك متسلسلة ألواحاً؟
– حاكيت في إصداراتي تتابُع ألواح طينية أدهشت البشرية عندما أخرجتها للضوء أيادي علماء الأحافير، فكنتُ أكتشف ألواحي وأخرجها من قعر الذات وعتمة مفازات الخيال إلى ضوء الحبر والورق، لتدهشنا في تعرُّفنا إلى ما أنا، ومن ثم إلى ما نحن…
قرأتُ لكِ سابقاً في مطالع التسعينيات «ألواح لقصائد منتظرة»، ماذا عنها؟
– «ألواح لقصائد منتظرة» كان هذا اللوح الأول من ألواحي. وهي تيمّناً بالألواح الطينية السومرية. تناول الديوان في قصائده تجربة شعرية تتكوّن في ظروف ولادة قاسية ومخاض ذات ووطن عسير في صراع نزعات الكينونة الحيوية الأولى وبين توقها إلى إنسان عاقل وابتكار حضارة. هي علاقة مع طين القصيدة والكلمة كعلاقة السومري مع طين الرافدين لتكون الحضارة.
ماذا عن كتابك «القصيدة الأولى من اللوح الأول»؟
– هذا عنوان اللوح الثاني لقصائد بعنوان «رؤى». وهو قصائد متنوّعة للوطن والحياة، قدّمه الروائي الراحل نواف حردان أذكر مما قاله في المقدمة: أفكارها تسابق عباراتها.. فتنتصب الخيالات والرؤى أمامها.. وتتجمّع الجمالات في اختلاجات شعورها.. وتتجمهر في رعشات يراعها المعطاء.. فيرسمها على الورق رسوماً جميلة ذات ألوان مسحورة…
وهل تابعتِ في نحت ألواحك الشعرية للآن؟
– أكيد، كان اللوح الثالث بعنوان «إنسان» تناول الإنسان، العلم، الحياة والنشأة، محاولة لتمركز نسقي الشعري على الإنسان هذا، لأنه منطلق كل عطاء وغاية، كل فكرة وفلسفة، ومصدر كل قصيدة. لذلك تراني في كل قصيدة.
لنغنِّ للأطفال.. يستحقون فرح التعلم
رأيتُ لديك كتبَ أغانٍ للأطفال، لماذا؟
– من وحي تجربتي التربوية وجدتُ خطورة أن نعلم أطفالنا بقسْرٍ وفرض، أن يتعلّموا وهم مكتئبون، تساءلتُ لماذا ينقص الفرحُ دهشة التعلم؟ ففكّرت أن أكتب أغاني للأطفال والفتيان والفتيات فأصدرت سلسلة كتب وأغانٍ لهم بعنوان «بسام ومَيْ في حياة مفرحة» في خمسة أجزاء. أتبعتها بكتاب «أغاني الغابة» للأطفال أيضاً. وهو مجموعة أغانٍ وأناشيد عن حروف اللغة العربية مرتبة أبجدياً.
هويّتي.. سجل روح «شاعر الزعيم»
منذ فترة وقعت كتاب «هويتي»، للمرحوم والدك، حدّثينا عنه؟
– كان والدي الوجيه الأيوبي، يُسمّى شاعر الزعيم، فهو ليس فقط كان لصيقاً بالزعيم، بل كان أيضاً شاعراً شعبيّاً مبدعاً. تشبّع القومية الاجتماعية بالتعلّم اليومي بالقدوة من الزعيم مباشرة. وعانى كثيراً من محيطه المتزمّت لما انتشر بين الناس خبر أن ابن عائلة الأيوبي المعروفة جداً في الشمال أصبح قوميّاً اجتماعياً، تمّ تحريم التواصل به وعزله عن بيئته عبر مئذنة المسجد بعد الصلاة.. بل كان لصيقاً بالزعيم وشاعره.
كان أبي مثقفاً بالفطرة وبالدربة والمتابعة، بكلمة أوضح كان متنوراً وزادته القومية الاجتماعية نوراً على نور. ففاضت روحه قصائد مجليّة في مواقف وفي تأملات ورؤى لم يبْلُها الزمان. رأيتها راهنية على الدوام. فارتأيت جمعها في كتاب «هويّتي»، لأن موضوع الهوية كان يستغرق القصائد كلها، وتوقيعه بأناملي على اسمه وروحه ومسرى الضوء الذي وضعنا به. والدي منذ نعومة أظفاري يتابعني منبرية وشاعرة وطليعيّة. وبرحيله لم أفقده. هو حاضر بي وبنا وبعقيدته الحية.
صالون مي الأيوبي الثقافي.. فريدٌ مثل مَي
نشطتِ منذ سنوات في سلسلة نشاطات متنوّعة في الصالون الثقافي، لماذا؟
– أقمنا صالون مي الأيوبي الثقافي بهدف إيجاد مساحة ضوء ثقافية وسط طغيان الثقافة الطائفيّة والاتجاهات المذهبيّة مدارس ودور نشر وثقافة سياسية تقود لبنان إلى فتنة داهمة، فرأينا ضرورة وجود نشاط مستمرّ يضيء شعلة أننا نبقى بالمحبّة ونفنى بالبغضاء ونُستنزف بالشحناء، شعلة إرادة تُقصي الميول السياسية الرجعية والاتجاهات الفئوية واصطفافاتها وتعمّق العمل الثقافي الوطني المدني العلماني.
وماذا فعلتم ومَن استضفتم حتى الآن؟
– أقام الصالون ندوات مع سياسيين كبار، منهم مع حفظ الألقاب: نجيب ميقاتي، مروان فارس، حسن عزالدين، مي عبدالله سعاده، سليم سعاده، بشارة مرهج، جان عبيد، أسعد دياب بصفة ممثل عن رئيس الجمهورية، محمد الصفدي، سمير الجسر، وغيرهم كثيرون ويحضره مثقفون ورؤساء بلديات وقائمقامون ومهتمّون كثر، ويقيم كل فترة نشاطاً…
ممن يتألّف الصالون ومَن يساعدك؟
– أنا رئيسة الصالون وأدير نشاطاته، تساعدني هيئة استشارية من الدكتور عيسى الأيوبي، المحامي ميشال الحاج، وفي التنفيذ أيضاً مساعدون متطوّعون ومتخصّصون ومهتمّون كثر يندفعون بحماس وإرادة واعية وحب للعمل.
وقضاء الكورة متقدّم جداً في العمل الثقافي الاجتماعي، فمنذ أكثر من قرن توجد جمعيات متنوعة تنشط لتنظيم القرى والنشاطات المختلفة فيها، حيث في كل قرية كورانية توجد جمعية نسائية ونادٍ رياضي وغيرهما.
لكن صالون مي الأيوبي الثقافي خطوة فريدة ومميّزة في منطقة الكورة ولم تشهد في تاريخها المعروف منذ زمن بعيد صالوناً مثله.
هل تقيمون علاقات تواصل مع صالونات مماثلة ومؤسسات ثقافية أو اجتماعية أو تربوية؟
– بيننا علاقات دعم وتواصل جيّدة إجمالاً. فنتبادل الدعم مع صالون فضيلة فتال في طرابلس، بيننا علاقة رفقة وعطاء وتعاون وتكامل.
ومع المدارس أيضاً نقوم بأنشطة تعارف بين الطلاب ومع برامج الأونيسكو، تحت عنوان «إنسان واحد لثقافات متعدّدة»، بدأت منذ سنوات بمساعدة وإشراف زوجي الفنان بسام جمال الدين كان الفنان بسام متوفياً ولم تقل عنه راحل .
وبسام ناشط ثقافي وبيئي، كان عند كل حصول أزمة وطنية مشكى ضيمي فأصرخ عليه وأبكي له وكأنه سبب الأزمة، فأقاتله على الطائفيّين وألومهم جداً..، وهو لم يكن حزبياً قومياً ولا غيره. لكنه إنسان نقي جداً ومواطن صافٍ كماء صنين. وأنا مشبعة بالوفاء للحظاتنا الحميمة ولفتاته اللامعة ولروحه الحية في كل عمل أقوم به.
أسرة واكبها التشرّد
نتحدّث عن ذكريات الأسرة، ماذا تذكرين؟
– والدي هو الشاعر الوجيه الأيوبي. كان شاعراً بالفطرة. عذب العبارة، سلسل الأسلوب، ينحو بسرد روائي ليوصل فكرة وعبرة وأمثولة منذ فترة وقّعت كتابه هويتي، ونال صدى واسعاً في الإعلام.
من الرعيل الأول الذي انطلق في الحزب السوري القومي الاجتماعي ضد الانتداب الفرنسي والمشروع الصهيوني وعُرف بلقب حميم إلى قلبه كثيراً هو «شاعر الزعيم»، تحمّل عبء التفرّد السياسي والعقائدي في عائلة اجتماعية مرموقة في الوسط الكوراني والطرابلسي، لدرجة البطولة وتحمَّل الأمرَّين لأجل قناعاته ومواقفه ولم يضعف مرة أو يندم على ما فعل. كان يرى هذا موقفه وكفى. هذا رأيه وقناعته. وهما من حقه، كيفما كانت ردّة فعل الآخرين الأمر سيّان عنده. أبي رجل حر جداً.
اضطر هو ووالدتي للخروج من لبنان إثر الانقلاب الفاشل رأس السنة 1961-1962 ففي لحظة صفاء كان أول ما كتبته معاتبة غيابَهما عن البيت:
ليت لي أم تعاتبني.. وليت لي أب يؤنبني
وكانت أختي الكبرى غادة قد تعرّفت إلى شاب ماروني وأرادت الزواج منه، فتزوّجته وأن تتزوّج غادة الأيوبي السنية من ميشال الحاج الماروني هذا أمر فظيع في تقاليد الطوائف تلك الأيام. وما زال إلى يومنا هذا يعتبر خرقاً للتقاليد. لما انتشر الخبر قاطعنا آل الأيوبي ونادى إمام الجامع من مئذنة المسجد على والدي محذّراً بـ«أنك إذا أعطيت ابنتك لمن هو خارج الطائفة فلا أنت منا ولا نحن أهلك، وإذا ذهبت بنتك من دون إرادتك بكرة بتكون رقبتها عالعتبة لغسل العار». فقال لهم بل تزوّجت بإرادتي وأنا مسؤول. وهي اختارته زوجها وتزوّجت ممن تحبّ. هكذا اضطّهدت الأسرة لزمن طويل.
… تنهّدت وقالت أبي مناضل كبير بالكلمة والقصيدة والموقف الحر، مناضل بصمت، بهدوء وثقة. ويذهب نظرها بعيداً عني، لطيفاً إليه
كان انطلاقك من عبارة شعرية في لحظة تمنٍّ، كيف توسّعتِ؟
– بطبيعتي كنت مشاركة في كل عمل اجتماعي وشبابي وكشفي حولي، وأكون مقدامة, مثلاً توفّيت طالبة زميلتي في المدرسة واسمها نجيبة نجار، ابنة ستة عشر عاماً من بترومين، في حادث على الثلج، فكان أمامي تحدّي إلقاء كلمة تأبينية، فتردّدت. قال لي والدي إن لم تكوني أنت فسيكون غيرك. فاختاري ما يجب أن يكون وما يريحك. فقرّرت أن ألقي كلمة نالت استحسان الحضور فأتى والدي إلى جانب المنبر وأمسك بيدي ممتنّاً لما فعلت.. وبدأت انطلاقتي.
كل أطفال الأمة اطفالها..
ماذا عن مَيْ الأم، أين اطفالك؟
– ابتسمت، وقبل أن تجيب مي، كانت سيدة صديقة اسمها فريال صادف حضورها خلال الحوار، فأصرّت على المشاركة بقولها: بعد معرفة 25 عاماً من عطاء مي الذي لا يتوقف كانت وبقيت كرماً على درب وزرعت في قلوب الناس بساتين حبّها عملاً وعطاء. فإن كان لم يُرزْقها الله أطفالاً فكل أطفالنا أطفالها هكذا هي تنظر إليهم وهكذا هم يرونها. مي الأم التي لا ملكية حصرية لها، لأن مي حياة غامرة.
.. ولم تجب مي. بل ابتسمت ممتنّة..
منزلنا «بيت الأمّة»..
طبعاً، مثلاً بعد هدم بين الأسرة في طرابلس تهجّرنا من بيت إلى بيت ومن حي إلى حي، ولم يكن من بيت ممكن لفترة طويلة للأسرة سوى مركز الحزب في طرابلس، بيت الأمة، كما كانوا يسمّونه.
وكم من مرات أتيت مساء وأنا متعبة بحاجة للنوم، لأنهض باكراً للمدرسة أو الجامعة، لأجد مقاتلاً أتى على عتم ونام في سريري، وهو لا يعرف. بدقّة أشدّ ليس سريري، لأني لا أملكه، بل السرير الذي تعوّدت أن أنام عليه.
«ما بدنا يقولوا ولاد الوجيه الأيوبي مش نظاف»
يبدو أنت وأختك غادة توأم روح، ما الأمر؟
– غادة تكبرني بخمس سنوات، لكنها عاملتني كأمي، خلال غياب أمي خارج لبنان وكنا صغيرتين، كانت تحمّمني كل يوم. وتغسل رأسي بقوة وهي تشدّد بكفّيها على رأسي وتوجعني، وتصرّ على أسنانها وتقول «ما بدنا يقولوا ولاد الوجيه الأيوبي مش نظاف».
ولما ينقص الخبز كنا نأبى أن نقترض رغيفاً من أحد، كانت تأتي بالطحين، وهي فتاة صغيرة، وتعجنه كما كانت ترى أمها تفعل وتخبزه على الغاز كعكاً وأرغفة ونأكل من يديها.