حين يصير «الحجّار» عازفاً.. يجلو »الوجع الأبيض» عن تصاويره الغبش..
النمسا – طلال مرتضى
لربما ينبري النقد ذات مقال معترضاً، بأن »أنا» الشاعر كثيراً ما تغلق فضاء القصيدة وتجعل من حيّزها ضيق المضامير، في حين أنّ هذه »الأنا» هي الركيزة الأساس في المعمار الأولي للقصيدة. وبالسؤال، كيف تتخفف القصيدة من علائق محيطها من دون انحيازها أولاً لأناها، التي تمثّل كينونة الشاعر وصيروراته.
ولوجاً نحو ما تركه على سفح الورق الشاعر اللبناني مجدي الحجّار، في منجزه الجديد الموسوم بـ »الوجع الأبيض» الصادر عن دار النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع 2016 البيروتية للرصد عن كثب ما آلت إليه مفاتن الحبر.
حيث البداية، منذ العتبة الأولى للديوان، العنوان، والذي ذهب نحو كسر الصورة مجازاً بفاعلية الحسّ، فالوجع هو فعل ليس بمحمود.
لكننا بالشعر وحده بِتنا قادرين على فعل هذا. كما فعل الحجّار عندما أعطى الوجع صبغة البياض، كما العنوان »الوجع الأبيض» وتلك حاسّة ثامنة لا يرتقي بها إلا مَنْ تماهت روحه بأناه.
بالمقاربة مع المقولات الدارجة، أموت في حبك/ أعشقك حد الغرق/ تنزفك أوردتي حدّ الغيبوبة.. الخ..
»صناعة البهائية الجمالية من الوجع» وهي فعالية تنفتح دلالاتها ومقارباتها بعيون فاحصي النصوص، قلّما يقربها شاعر غضّ العود.
في الدخول إلى جوٌانية »مجدي الحجّار» والتي لا أفْصلها عما تركه من نثير، لأنه كان متماهياً حد التلمس بمقولاته كلها والتي ما فتئ يجرّها إلى كلّ متاهات الحياة.
أيّ مسرحتها كواقع نعيشه، ولا نستطيع الفكاك منه. وليس خافياً على أحد، فإنّ التّمسرح طالما يحتاج دالّات، تجعل منه حقيقة، وذلك عندما ضخّٓ في مقولته شيئاً من القصّ والسّرد المكثف، ليجعل من نصه مجسماً بأبعاده الثلاثة وليس مقروءاً فقط بل ومنظوراً أيضاً. وهذه ثيمة يتقرب بها الأديب من قارئه، ليس بدعوى جعل الأخير شريكاً في المقولة، بل لقناعة الكاتب بأنّ القارئ وحده مَن يعطيه صكّ براءة القول:
»هل لي إلى سرِّ القصيدةِ عودةٌ؟
قدمايَ فوق الدَّرْبِ ترتبكانِ
في وَجَلٍ
فأمشي في ظلامٍ دامسٍ
والبردُ يقسو فوق جسمٍ
واهنِ الأعضاءِ
والمطرُ العنيفُ يسوطُني».
وبالطبع، فإن كل هذا لا يأتي جُزافاً, فللقصيدة طقسها، كيف لا وهي الأنثى الغنوج، الغاوية التي تسلب لب شاعرها، وتجعل منه أسيراً، وهو العارف تماماً بأن اكتماله لن يكون إلا حين يصيب مقتلها وهي التي لن تسلمه مفاتيحها قبل أن يندى مسامها ويغرقها في لذة الحبر.
تلك اللحظة تحتاج المدد العجيب فالتحرر منها ليس بالأمر اليسير إلّا بطلب النجدة من مليك الشعر الذي يجفو, ليحوّلَ واحات الشعراء الغناء صحراء قفراء:
»أم ترُى
سيُغيثُني الإلهامُ ثانيةً
لكي ننجو معًا
ونخُطَّ بالأقلامِ خاتمةَ العذابِ؟».
وحدها ساعة الفرج التي تجلي عن الشاعر كل عذاباته. بالطبع لا بد من المفارقة بين من ينتظر هذه اللحظة، ليصطاد القصيدة، وبين من يدوّنها ارتجالاً لمجرد حضور الفكرة، وتلك هي الميزة بين الشاعر والناظم.
يتلمس القارئ عن كثب حضور الجغرافيا في مُنتج »الحجار» وهذا تجيير لحيثيات المكان وإرضاخه لسلطة النًص، كما فعل عدد من شعراء الجاهلية قبلا وغيرهم مثل ابن زيدون وجرير، وهو تدوين شفوي لذاكرة الأمكنة، كما استحضرها الشاعر في نصّه التالي بقوله في المطالع:
»فكيفَ يَمَلُّ الحجيجُ العَطاشى بمكَّةَ
زَمْزَمْ!
تَكَلَّمْ
سَأُصغي إليكَ كَبئرٍ
براها الحنينُ ليوسُفَ
أُصغي كغارٍ
تَعلَّقَ ذكرى نبيٍّ
سأُصغي».
ثمّة نفحة صوفية سكنت الشاعر لم يستطع التخفف منها، ظلت ملازمة في الديوان كله ليوسم بها نصوصه. وهذا يُعزى لما يكتنفه الشاعر من قراءات روحية تراكمية، طفت عنوةً، من دون أن يدرك بأنها أمسكت بيده كـٓ »درويش» مُستلب الحواس، لتجرّه إلى مفاز حلبة الرقص، وهنا أترك بعض مفاتيح القول التي تركها الشاعر وهو بهالة اللاوعي الشعوري:
»طالَ إسراءُ هذا الفتى».
»أريدُ المَدَدْ».
»والجَنَّةُ أدنى من ظلِّ يديكْ».
»معراجُ الياسمين».
– »إلى مَسْرَبِ الفجرِ بينهما».
ثمّة مداخيل كثيرة طرق الشاعر بابها من دون تردد, فهو لم يتوانَ أن يذهب مع الجرس الموسيقي للقول حد الرضوخ توسلاً للوزن, مثل قوله باختزال:
»يتنفَّضُ كالفَجْرِ الناتِئْ»…./ إلى
»بفحيحٍ من عطرٍ دافِئْ».
كما أنه استعار حتى يروي غرور المقولة
»فَذُبْتُ عِشْقًا وعيني بعدُ لم تَرَها/
»والأنفُ يَعْشَقُ قبلَ العينِ أحيانا».
»الوجع الأبيض» كتاب الحياة اليومي، الحامل شروطها كلها، ثمة حارس كان يتبختر دوح مفازات القول، حاول الشاعر مواربته من دون فائدة، على الرغم من نضوج الأفكار وتجليها، مررها الشاعر سريعاً مثل ضربات على وتر كمنجة.