السراي الحكومية بالنبك.. أحد الأوابد الأثرية الفريدة من نوعها
لورا محمود
مدينة «النبك» من أكبر مدن منطقة «القلمون» في سورية، وتشتهر بالعديد من الأوابد التاريخية والأثرية ويُعدّ مبنى السراي بالنسبة لأهالي مدينة النبك دليلاً على القيمة التاريخية والثقافية التي تمتّعت بها المدينة عبر التاريخ، وهو رمز من رموزها، وعلامة يستدلّ بها، ورغم قلة الدراسات والوثائق حول تاريخه وأهميته، لكن أهالي المدينة يعرفون الكثير عنه نتيجة معلومات تتوارثها الأجيال عن هذا السراي بحيث يعود تاريخ بناء هذا السراي إلى أواخر القرن التاسع عشر.
الموقع
يقع السراي الحكومي وسط مدينة النبك، 80 كم شمال دمشق، وفي أعلى نقاط البلدة القديمة، وهو مؤلف من طابقين، يعود تاريخه إلى أواخر العهد العثماني. وتعرّض المبنى لأضرار كثيرة أدت لتكسير الأبواب والنوافذ وإلحاق الأذى في الجدران والأسقف، كما تمّت سرقة بعض محتوياته.
تاريخ بناء السراي
إن بناء السراي الحكومي في النبك بدأ عام 1887 عندما اتخذ قرار بفصل قضاء القلمون عن قضاء دوما، وكانت الحاجة لمبنى يضم ممثلي الحكومة في المنطقة، حيث فرضت رسوم نقدية على أهالي بلدات النبك ويبرود وديرعطية لتمويل بناء السراي وفرضت رسوم عينيّة على القرى المحيطة بالنبك مثل جلب نبتة الشيح من الجبال والتي استخدمت في الكلس الذي كان يُستعمل في طينة الجدران.
التصميم المعماري
بني السراي فوق برج روماني استخدم من حجارته في البناء وأرض البناء عبارة عن تلة صخرية من الصخر الكلسي متوسط القسوة، فيما جاء التصميم على شكل مربع مؤلف من طابقين، ويقع على مساحة 1362 متراً مربعاً. والطابق الأرضي للسراي مؤلف من باحة سماوية مربعة الشكل بمساحة 256 متراً مربّعاً تحتوي على بئر ماء وتتحلّق حولها الغرف إضافة إلى أربعة أجنحة تضم كل منها غرفاً عدة. ويتكون الطابق الأول من البناء من ثلاثة أجنحة أهمها الجناح الشمالي الذي يضم مقر القائمقام فضلاً عن رواق خارجي عريض يناسب فصل الصيف، كما تُركت فراغات عمداً في الجناح الجنوبي لتأمين دخول كميات أكبر من أشعة الشمس لباقي الأجنحة ومنح الدفء للبناء في مواجهة قسوة الظروف الجوية في فصل الشتاء. واستخدم الحجر المنحوت على كامل واجهات الجناح الشمالي ومعظم الأجزاء السفليّة للواجهات الأخرى، وفي جميع إطارات الأبواب والنوافذ بأشكال أقواس دائرية والتي تميّز هذا البناء ورصفت الأرضية بالبلاط التقليدي المتعدّد الألوان والزخارف.
إن البناء استخدم لأكثر من تسعين عاماً مقراً للقائمقامية ثم لقيادة منطقة البنك، ومن ثم استخدم كمقر لسكن رجال الشرطة إضافة إلى إجراء تعديلات عديدة غيّرت من شكل البناء الأصلي في ظل غياب الصيانة بشكل كامل، ما أدّى لحدوث تلف شديد في بعض الأجزاء وانتشار مخلفات البناء جراء عمليات التعديل وفقدان الكثير من العناصر الإنشائية في المبنى، مثل الأسقف والأقواس والأعمدة في الرواق الشرقي.
مراحل الترميم
سراي النبك الحكومي سجل في عداد المباني الأثرية منذ عام 1988 إلا أن المديرية العامة للآثار لم تستطع إخلاء شاغليه منه حتى عام 1995 وقامت خلال هذه الفترة بأعمال توثيق مختلفة لأجزاء المبنى ووضع مخططات مشروع الترميم، والتي قسمت إلى ثلاث مراحل على مدى أعوام عدة، نظرا لحالة المبنى السيئة وضعف الإمكانات المادية.
عمليات الترميم بدأت بملء الحفر الفنية الملاصقة للمبنى ثم تنظيف المبنى بشكل كامل من المخلفات وإزالة معظم العناصر المضافة إليه ما لم يكن هناك خطر إنشائي وإعادة بناء العناصر المفقودة من الرواق الشرقي. وبدأت عمليات ترميم المبنى على مراحل حيث تمّ الكشف على طبقاته وصولاً إلى العناصر الخشبيّة الحاملة وفحصها واستبدال التالف منها، وترميم الثلث السفلي من جدران الطابق الأرضي وإزالة الحجارة التالفة من السطح الأخير والجدران الداخلية والتي رمّمت بالكامل، إضافة إلى ترميم بعض الأقواس والأعمدة الحاملة لها باستخدام حجارة قاسية منحوتة من الكلس ومماثلة للأصلية.
وقد لوحظ بعد تنفيذ أعمال الترميم السابقة استمرار التشوّهات في العديد من الجدران والتي عانت من ضعف كبير في ترابطها في ما بينها، حيث تمّ ربط الجدران مع بعضها البعض عند مستوى السقف الأول بشدادات فولاذية، كما تمّ تنفيذ ربط للجدران الواقعة تحت أرضية الطابق الأول ببلاطة بيتونية مسلحة وتدعيم وحماية الجدران من التأثيرات المناخية عبر تنفيذ شبك معدني على كلا وجهَيْ الجدار وتسوية ميول السقف الأخير من المبنى باتجاه مصارف السقف وتزويده بأنابيب الصرف المطري اللازمة.
وفي عام 2006 بدأت مرحلة جديدة من مشروع الترميم وتضمّنت إكساء الجدران بطبقة نهائية من الكلس وإكساء أرضيات الغرف بأنواع مختلفة من البلاط المزخرف تشابه قطع البلاط التي عثر عليها وإكساء أرضية الباحة السماوية بالحجر المنحوت. وصمّمت الأبواب والنوافذ من خشب السوّيد بتصاميم بسيطة ومماثلة لما كان مستخدماً وصيانة الباب الرئيس للمبنى وتخصيص الجزء الجنوبي من الموقع للمساحات الخضراء.
ويُذكر أن اللجنة التي شكلت لتحديد كيفية توظيف سراي النبك الحكومي بعد الانتهاء من ترميمه أقرت تحويل المبنى كمتحف أثري خاص بمنطقة القلمون، إضافة إلى احتضانه مركزاً متخصّصاً بإحياء الحرف التقليدية وتدريب مجموعة من الشباب عليها والاستفادة منه من الناحية السياحية كمركز استعلام سياحي من أجل استقبال السياح، وتزويدهم بالمنشورات المهمّة عن تاريخ المنطقة.
كثيرون كانوا لا يثقون بإمكانية عودة سراي النبك إلى وضعها الأصلي إبان تشييدها قبل أكثر من مئة عام، ولكن الفترة الطويلة التي استغرقتها عمليات الترميم لم تذهب عبثاً وكانت دافعاً لاستعادة آثار أخرى تنتشر في ريف دمشق تحتاج إلى بعض الترميم لتستعيد عافيتها.