الشاعرة الليبيّة ريما المبروك: التجريب والتجريد كجناحَيْ طائر في مشوار أيّ مبدع

أحمد الشيخاوي

في خلفية أنوثة وهشاشة الذات المتصالحة مع مراياها، فضلاً عن باقي مكوّنات الطبيعة وهواجس نفض غبار السّرية المضروبة على الكامن عند الآخر، بغية فكّ رموزه واقتحام خفيّ عوالم الغواية بشتّى صنوف نبوءاتها، يُمكننا قراءة المبدعة الليبية الواعدة ريما المبروك..

وعلى هذا الأساس المغرق في كتابة تخوميّة مشرعة على احتمالات مغامرة التموقع في الـ»ما بين» والتدرّج في نقاطه إلى قمم سطوع الفعل الإبداعي عبر جسور اصطدام الواقعي بالمتخيّل والوعي بالحلم والممكن بالمستحيل.

تجربة خارج الزمان تُصقل طبقاً لمنسوب الاستنساخ غير المكرور للذات، تقترح لدى كل ولادة طقوس احتفالية مغايرة مؤنسنة للوجدانيات، وقد تفوق ذلك إلى مراتب ودرجات أرقى أحياناً، كي تضعَنا في الصورة الميتافيزيقية المشدودة إلى نبض الصحو.

تلك ببساطة أناشيد الحياة في ظلالها المتراقصة لتدفق وانسيابية وتساوق كرنفالين اثنين: شعريّة عفويّة لا يشوبها تكلّف أو ماكياجات مسوّقة للوهم، ونثريّة تربط أنامل جسدنة الخطاب بغيمة طقوس الروح لتؤتي في أدنى حالات العري اللساني المحتشم، رذاد الزاد الصوفي ماتحاً من كريستاليّة المنبت وأخلاقية الجذر وحسن الطوية.

ثمّة بضع تجلّيات للبراءة والبساطة المفخّخة بالدّال الدّفين، وهو ما اهتدينا إليه من خلال محاورتنا لهذه القامة الغضّة العاشقة لدروب التغزّل ثرثرة بجاذبيّة البياض وداء الكتابة ملء فردانية الوجع والهمّ ما تلبث أن تتوسّع وتتمدّد وتتعدّد لتبتلع الآخر والعالم قفزاً على أنقاض تنويم الأنوية كنواة داخلة في تشكيل الملامح الأوليّة للموقف، بصرف النظر عمّا إذا حصلت بلورته لصالح أو ضدّ تيار بحدّ ذاته، لكونها تراوح بين الرؤية الأيروتيكية والنشاز المهادن لأنصار التحفّظ على التابوات، بما هي قمع لسؤال الجرأة كمفتاح لثقافة تحرير الجسد كضرب من تمكين له ومنحة المظلة التي تُشرعن لغات تمجيد تفاصيله دونما وازع للخجل أو الامتناع، دونما تدنيس لمنظومة القيم والأخلاق، وعلى متن يتيح له، بالتالي، الحيّز الكافي لتفجير ما يتكتّم عليه من إمكانات ومخزون طاقيّ هائل قادر على صناعة التاريخ والبشر.

أكتفي بهذه التوطئة لأترك لكم مجال الإصغاء إلى صوت أقل ما يمكنني نعته به أنه مخاتل ومرمريّ وطفولي ومتصادٍ مع ألوان الحياة وجنون البوح، تقول المبروك: «تخونني الذاكرة كلما حاولت القبض على خيوط نظم لعبتي الكلامية الأولى، لحظتي البكر مع أول سطر شعري قفزت أحرفه من حلقي العاشق، متواجدة باستمرار وهي قابعة في محطّة ماضويّة ما، تعزّ عليّ العودة إليها وتبيّن ملامحه.. وحتى الآن لا تستهويني التصنيفات ولستُ أميّز ما إذا كان ثمّة لما أكتب شجرة عائلة أو انتماء معين.. ذاتي ترتع على الحدود بين أجناس تعبيرية عدة، من غير تصوّر قبلي ولا تقيّد بتصميم مضنك ولا تصنّع، فقط أترجم أحاسيسي إلى لوحات وفسيفساء من بوح أتطلع لأن تلامس وتهزّ شغاف قلوب معشر القراء، وتلفي صداها الطيب والمقبول لدى النقّاد والدارسين.. تاريخ ميلاد نصّي الأول منسيّ تماماً».

أما فيما يتعلّق بجديدها تقول: «حتّى الآن لستُ أمتلك مشروعاً شعرياً جليّ المعالم، وأكتفي بفعل التشذير والممارسة الومضيّة التي أطلع بها بين الفينة والأخرى على صفحتي في «فيسبوك».

ذلك وأعتبر التجريبية والتجريدية كجناحَيْ طائر، متلازمتين لا غنى عنهما في أيّ من الأنشطة الأدبية والفنية، وعلى بساط المخملية الهامسة أبسط نصوصي المترنّمة بأوجاعي وآمالي وزوايا رؤيتي لذاتي وللغير.. أتعرّض أحياناً للتعنيف والتجريح مع مطلق تفهّمي لأسبابه، ولستُ أخفيك أني لفرط رقّتي وحساسيتي الزائدة، أستشعر في ذلك لهجة للقمع وإطلاق الأحكام الجائرة من دون أدنى تبصّر، حتى أنها لتمرّ عليّ جراء اتهامات على ذياك الطراز، أسابيع أنقطع خلالها عن الكتابة، وأوثر الإنصات إلى أعماقي عسى أحضى بورقة بين قشّ وفير، أحتوي بها المشهد المحرج، وأتزوّد بها وقود استئناف المسار والعودة إلى أحضان كلمة جديدة وجريئة قد تضيء مكامن الخلل والعتمة في الإنسان والكون».

ورداً على سؤالي حول النزعة الأيروتيكية السائدة، الذي أعتبرته المبروك مهماً، ـتجيب: «لم يحدث أن انشغلت ولو مرّة بإملاءات المعيارية وتقييم انتسابي الشذريّ.. كأيّ أنثى اخترت فلسفة النأي بالذات عمّا من شأوه زرع الغواية والإغراء بلواء التطاول على الثوابت والمقدس..

أصلّي بعشق مَن يضع فوق آدميّته رقابة إلهية مدبّرة للمصائر، عادلة ورحيمة وقاهرة في الوقت نفسه.. ذلكم الذوبان الروحي هو ما يمدّ جسدي بالحياة».

وعن انتمائها لمدرسة شعريّة ونزارية تحديداً، تقول: «لا أنتمي إلى «النزارية العظيمة»، ولا نزوة عابرة بين كلماتي.. نعم، أنا مريضة وجائعة دائماً في سعيي الحثيث لإشباع روحي حباً وامتلاء سلطة الروح علي جبّارة تقترح على فسحة بضفتين: اللذاذة والتأمّل، ربما لجذور التصوّف الضاربة عميقاً في السلالة التي أنحدر منها. ربما تنشئتي الصوفيّة هي المحرّك الأساس لهذه الأحاسيس اليقظة.

وإذا ما رمنا خيار تبسيط الشعر واختزاله إلى مفهوم يغزو الأذهان على نحو سريع، هو والكتابة والآداب والفنون على اختلافها، وجدناه يأبى ويكابر ويترفّع عن أن يغتدي بمجرّد مادة جامدة صمّاء وصلبة لا روح فيها.

الفنون بأنواعها هي تجربة قلبية وجدانية عاطفية وأخلاقية كذلك، مثلما هي طريّة ليّنة متجدّدة متحوّلة، وتقسيم المحطات الشعرية، إنما هو عملٌ تقنيّ بدرجة أولى.. لا شيء يبدأ بفلان وينتهي عند فلان.. التجديد عبر فعل الكتابة هو عمل يومي، فرديّ.

والحقيقة الثابتة تكمن في كون أي كاتب أو شاعر، قد يغيّب ويعطّل فيه عامل التجدّد وتطوير الميكانيزمات، وكذلك رؤى محاصرة العالم بشتى عناصره وموضوعاته، آيل للإفلاس الإبداعي بكل ما يحمله التوصيف من معانٍ قدحية للانتحار الرمزي للروح».

وتختم المبروك «من الطبيعي أن يرتكز النص إلى خلفيّة ثقافية أو معرفية أو أيديولوجية ما. حتى الكتابة العبثيّة المجّانية إذا شئنا، لها قوالب وجذور في أعماق النفس».

شاعر وناقد مغربي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى