الفنّان علاء القسوس وخافية الكرك زهرة مؤاب!
نصّار ابراهيم
في تقديم لوحته، التي أُطلق عليها «همْس الحجارة»، كتب علاء القسوس يقول: «ضوء الحنين يتسلل إلى قريتي حاملاً عبق الذكريات، هنا أيها المسكونون بالأصالة تعانقون رائحة الهيل وصبر الحياة فتغزل الشمس من نبضها أهزوجة حب كركية، لكم، أيها العظماء يا من جذّرتم وجودنا، فصهيل خيلكم وحداء نخوتكم وحكمة جمعكم وقصيد فتيانكم أشعلت فينا نار ارتباطنا بما تركتم لنا نوراً وناراً ووطناً يسكن فينا وقّاداً، فلكم الرحمة ومنا الولاء … لقريتي أهدي رسمي وحروفاً من نبضي لعلها تصل محملة بذكراكم» علاء قسوس .
يقف علاء سهيل القسوس بصمت الصلاة أمام بقايا بيوت جدران أقواس أبواب وحجارة ويرسم. يقف في حضرة الذاكرة ويرسم. بيوت تتكئ على ذاتها، وحجارة تهمس، ونبتة تنهض من بين مفاصل الصمت والأرض والصخور الصاعدة من الأرض كأنها تعلن أن المكان لم يمت بعد فلا يزال عامرا بذاكرته وناسه. أقواس وأبواب تنفتح على بعضها بألفة مدهشة، فلا حواجز بين القلوب والعيون والوجوه التي ملأت المساحات هنا يوماً ومضت في سبيلها. انفتاح على الله والسماء. تلك خافية الكرك وناسها الذين مرّوا والذين يقيمون والذين سيأتون في قادم الزمن. قرية من قرى الكرك تتعربش بعفوية وإصرار نحو السماء كأنّها لا تريد أن يكون بينها وبين سمائها وبين الله وسيط آخر. ولهذا هي في الأعالي هكذا. والكرك مدينة مسكونة بروح ناسها، روح الجبال والمدى المفتوح وعشق الخيل للركض الفسيح، والإشراف على الآفاق شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً.
مدهشة وجميلة هذه الحجارة وهي تتناثر وتتراكم وتحتضن بعضها بعضاً. حجارة رملية اللون مثل الصحراء وأخرى صوّانية اللون. والمدهش إلى حدّ الفرح تآلفها وانسجامها وتناغمها بما يرسل قصيدة عميقة المعاني إلى مَنْ يمر بها، أنّ هنا في الكرك لا تمييز ولا كراهية، فالحجر الرملي المتوهّج لا يستقر من دون شقيقه الأسود، فهو يستند إليه ويعتمد عليه ولا يكون ذاته إلاّ معه وبه. يا الله كم هي بسيطة هذه الحجارة الهامسة وعفوية وحميمة وأليفة، لم تأت مصادفة، بل هي انعكاس عميق لألفة البيوت والأرض والفضاء والناس والعلاقات. هي الكرك هكذا، لا تفرّق بين أبنائها للون أو عمر أو دين أو مال. فقط هي صارمة مثل أم مع كل من يتطاول على شموخها وكرامتها ووحدتها. هي صارمة وحاسمة مع من يعبث بروحها. وكي لا يسيء أحد الفهم، تعلن ذلك بحجارة بيوتها المتلاصقة بألوانها وحجومها وتفاصيلها وخصوصياتها المتنوعة. هكذا تربي الكرك ناسها وهكذا تخاطب من يمر بها عابراً أو مقيماً، فمن شيّد بيوتها لم يقم بمجرد صفّ الحجارة إلى بعضها، بل كان في اللحظة ذاتها يبني روح المدينة ومعاييرها، ولا عذر أو تبرير لمن يتعدى هذا الخط الفاصل في وعيها ووعي ناسها. تلك هي خافية الكرك الأزلية، مدينة تعاند وتعشق وتطلق أسراب الحمام والعصافير وتمنحها مكاناً دافئاً بين حجارة بيوتها وعند أفاريز نوافذها. أبوابها مشرعة على الكون هكذا. وكأني بعلاء قسوس وهو يرسم في حالة من نشوة وحنين وشجن إنّما كان يعيد بناء الوعي وإشعال المكان والذاكرة ليعود إلى ما كان عليه. كان يرسم كأنّ وجوه الأمهات تطلّ من النوافذ، والباحة تشتعل بضجيج الأطفال، فيما الرجال يستندون بقاماتهم المهيبة عند الأبواب في انتظار أول الأمطار وتحية الصباح: تفضل يا «أبا جورج»، كيف تمر من باب بيتنا ولا تشرب القهوة! فيردّ جار البيت والحياة والعمر: وهل يمكنني أن أتجاوز دلال قهوتكم يا «أبا محمد»! فهي هنا منذ صرخة أول طفل على سفوح هذي الجبال.
أبواب مشرعة للحياة والناس، تكره الإنغلاق والصمت، فجمالها في رحابتها وفي انفتاحها وفي الناس الذين يأتونها صبحاً ومساء فلا يجدون خلفها سوى الكرامة والعهد والوفاء.
في لوحة علاء كلام وعتاب الحجارة تحدق إلى أعماقنا وتعاتبنا، وكذا الأبواب والبيوت وفسحة السماء، بيوت وحجارة تتكوّم على بعضها تحت شمس الكرك ورياحها الأربع، تتكاسر عليها الظلال عصراً وتنتظر، فقد يعود إليها يوماً بعض أبنائها بحثاً عن دفء فقدوه في صقيع الغربة والاغتراب والاستلاب، ولهذا فهي لا تملّ الانتظار.
فقط شجيرة وحيدة تقف بجلال في مدى الصمت، كأنها تأبى أن يصمت المكان كلياً فواصلت البقاء على طريقتها. شجيرة تعاتبنا بأسى: «لماذا تركتوا البيوت وحيدة؟ لماذا تركتموني وحيدة؟ فالبيوت تموت من دون سكانها». إذهبوا أو إرحلوا كما تشاؤون، أما أنا فسأكون هنا لأهمس كل صباح ومساء: صباح الخير عليك أيتها البيوت الدافئة. صباح الخير عليك أيتها الحجارة البهية. مساء الخير عليكم يا من كنتم هنا يوماً، مساء الخير على القهوة العربية ومواقد النار التي لا تنطفئ. وعمت صباحا ومساء يا كرك… يا زهرة مؤاب!