من أستانة 1 و 2 إلى جنيف 4…

محمد ح. الحاج

عندما تقرّر لقاء أستانة الذي أطلقنا عليه تسمية بازار كان السؤال الأول الذي تبادر إلى الأذهان، من سيتقابل مع رئيس الوفد السوري الدكتور الجعفري وهو الخبير الضليع بالقانون الدولي والعلاقات الدولية، واللغات، وعندما تمّ الإعلان عمّن سيكون رئيس الوفد المقابل كانت الصدمة وردّدنا القول المأثور: ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى…، والنكد هنا الذي واجهه الدكتور الجعفري كان بمستوى سمسار في سوق الخضار، وجاء الاسم مناسبا تماماً… بازار أستانة، ثم لنتأكد بعدها أنه مجرد واجهة تعبّر عن المستوى السياسي السعودي، وترضية للسعوديين، أما الولي والمرشد وصاحب القرار فكان التركي رغم استبعاد مجلس الطبول أو ما يسمّونه منصة اسطنبول.

بعد أستانة واحد قيل، وبعض القول زيف، إنّ النتائج تمخضت عن فصل الأخيار عن الأشرار في المعارضات المسلحة، وأنه صار ممكناً تحديد مناطق هؤلاء ليتبيّن أنّ رقعة الأخيار لا تكاد تظهر على الخارطة، أما الإيجابية الوحيدة له فقد كانت اقتتال المجموعات في ما بينها لتحقيق السيطرة على الأرض وحصاد القدر الأكبر من المكاسب المادية والمعنوية، أما على الصعيد الوطني العام فالمواطن السوري لم يلمس أيّ تغيير ينعكس على مجريات الحياة اليومية والمتطلبات والخدمات ولا حتى على مستوى المواقف الدولية.

المناورة التركية والقبول الروسي بها لا توحي بالثقة، ويمكن التقدير لأيّ متابع أنّ الأهداف التركية لم تتبدّل وحتى الخطاب التركي لم يطرأ عليه أيّ تغيير جوهري، وإنْ قال التركي إنّ النقاش حول استمرارية رئيس الجمهورية السورية على رأس الحكم مؤجل، وإنّ المفاوضات يمكن أن تقوم بوجوده، هذا ما ترفضه دول العدوان الأخرى، السعودية وقطر وفرنسا وبريطانيا أيضاً، رغم سقوط رموز الحكم في الدول الأخيرة ممّن رفعوا الشعار ذاته، ويبقى أنّ استمرارية تبني هذا الشعار هي مطلب صهيوني بالأصل، أميركي أوروبي بالوكالة، تتبناه جهات عربية التزمت به تجاه العدو من منطلق التعاون ووحدة الهدف تحت شعار العداء لإيران العدو المستحدث.

ما قرأه البعض في أستانة 2، خالفه بعض آخر، فلا جديد هو تأكيد على ما جاء في أستانة 1 من ضرورة الحفاظ على الهدنة وتمرير المساعدات والتأكيد على ضرورة قيام وفد للمعارضات موحد يلاقي الوفد الرسمي السوري في لقاء، ولن أقول مؤتمر جنيف، لأنه لقاء سوري – سوري كما يُقال بوجود وسيط دولي أثبت بسلوكه الفعلي أنه ليس وسيطاً وإنما منسقاً لأعمال وأهداف دول الوصاية والولاية على عملائهم الناطقين باسم «معارضات سورية» متناحرة متصارعة تتسابق على المغانم والمكاسب والفنادق والظهور الإعلامي وآخر همّ هؤلاء العودة إلى الوطن أو خدمة أبنائه، بالأصل هم لا يجرؤون على العودة، ولن يأمن عميل على نفسه لمعرفتهم الوثيقة بهذا الشعب وطريقة تعامله مع العملاء والخونة… بازار أستانة 2، لم يكن أفضل حالاً من سابقه وقد وصفه السفير الجعفري بالقول إذا كانت هناك رغبة للعودة إلى أستانة للسياحة، فلا مانع… مدينة جميلة والضيافة جيدة، خلاصة القول: أستانة 1 و 2 يساويان صفراً كبيراً وما تمّ إنجازه كان ممكناً الاتفاق عليه باتصال هاتفي أو مراسلة.

جنيف 4، لقاء كسابقيه جنيف 3 و 2، اجترار لمطالب المعارضات وهو في بدايته لم تتحقق فيه وحدة الوفد ولا وحدة الموقف، وتنعدم الثقة بين مكونات المعارضات، حيث يعمل كلّ في خدمة سيد يتقاضى منه الأتعاب وينفذ التعليمات…

من هذا المنطلق تأتي التوقعات حاملة التشاؤم وبوادر الفشل، وجاءت اعتداءات حمص وقصف أحيائها الآمنة لتشكل لحظة الامتحان والقول الفصل في المواقف، بعضهم رقص فرحاً، كمن يرقص في عزاء أمه، وبعضهم التزم الصمت، ولم يقتصر ذلك على تبعية المنصة بل في ذات المنصة، أما من يعلن من المعارضات موقفاً مطالباً بوقف شامل لإطلاق النار وعلى مساحة الوطن فإنما يقول ذلك توظيفاً إعلامياً بعد أن يدّعي أنّ الجيش هو من يبادر وليس العصابات التي لا تعترف به متحدثاً باسمها، لا هو ولا منصته، ثم، هل يعتقد أصحاب المنصات بقدرة دي مستورا على جمع شملهم وموافقتهم وتشكيل وفد موحد من شراذمهم؟

اللافت ليس ما يتمّ الإعلان عنه من مواقف بل ما يدور من همس عن وجود خلافات كامنة بين الأفرقاء في محور موسكو طهران – دمشق، فلمحور المقاومة تحفظاته تجاه العلاقة التركية الروسية والصمت الروسي على الارتكابات التركية لجهة خرق الحدود الدولية وفرض المنطقة «الآمنة» وقصف القرى والبلدات المدنية السورية وإلحاق الضرر بالبنية التحتية السورية، وهي أعمال تمسّ بسيادة الدولة السورية، وإذا كان التبرير هو محاربة داعش فإنّ فصول المسرحية التركية تكشفت للجميع، وأنّ التناغم مع داعش والانسحابات المفاجئة للتنظيم منذ دخول جرابلس وفتح الطريق لدخول القوات التركية تحت مسمّى «الجيش الحر» أو أيّ مسمّى آخر إنما هو للتضليل والاستهلاك الإعلامي الخارجي، ذلك ما يعرفه الروس والغرب بشكل عام، ويناقشه الحلفاء في ما بينهم بحيث لم يخرج إلى العلن وإنما بعضه يتسرّب ويجري الالتفاف عليه ونفيه، ما هي فحوى الاتفاقات الروسية التركية، وأين الحفاظ على شعار وحدة الأرض السورية، وما هو مغزى التصريحات الروسية عن خروج قوات حزب الله والقوات الإيرانية فور انتهاء الحرب، ولماذا لا يشمل الحديث خروج القوات التركية قبل ذلك ومعها كلّ القوات الغريبة، بما فيها الروسية، وطبعاً دون الحديث عن القواعد البحرية؟

مؤكد أنّ التركي يلعب ورقته في الوقت المستقطع قبل أن تتوضح معالم السياسة الأميركية، وحتى يحزم الرئيس ترامب أمره وخياراته تجاه العلاقة مع كلّ من روسيا وإيران وأتباعه في حلف شمال الأطلسي الذين يتوجّسون خيفة من تصريحاته في هذا الاتجاه، ترامب لم يوضح سوى موقفه تجاه العدو الصهيوني ولقد تراجع جزئياً عن التزامه بنقل السفارة لكن ترضيته لرئيس وزراء العدو كانت تبني موقفه الرافض لحلّ الدولتين، الرئيس التركي يتابع ومستشاريه وحكومته السلوك الأميركي بدقة، وهو جاهز تماماً للعودة إلى الحضن الأميركي لقاء أية بادرة ترحيب شرط ابتعاد الإدارة عن دعم الأكراد على الساحتين العراقية والشامية، أما الخيار الآخر فهو المزيد من توثيق العلاقات مع الروسي والحصول على أكبر قدر من المكاسب سواء على الصعيد الاقتصادي خطوط الغاز أو السياسي متمثلاً بالتنسيق على ساحتي الصراع في المشرق القريب واستمرار الصمت الروسي على حساب الأرض والكرامة الوطنية، وهذا على ما يبدو جانب من الخلاف بين الموقفين السوري والإيراني من جهة والروسي من جهة أخرى… أين الموقف الروسي الصلب من تطبيق القانون الدولي؟ يسأل مراقب؟

هل يدفع الموقف الأميركي الداعم للأكراد، روسيا لاتخاذ موقف مضادّ بحيث تتجاوز القانون الدولي فتسمح للأتراك بخرق الحدود السورية، أو تلتزم الصمت؟ وهنا يلاحظ ارتفاع الصوت الإيراني واتهام تركيا بنكران الجميل؟ أيّ جميل!

إنّ أكثر المحللين تفاؤلاً لا يمكنه البناء على نتائج مرجوّة من لقاء جنيف 4 لكثير من الأسباب، أهمّها موضوعياً الموقف من الإرهاب، تعريفاً وتحديداً، واستنكار ما تقوم به المجموعات الإرهابية من اعتداءات متكرّرة على الآمنين في المناطق المدنية وعلى المنشآت الاقتصادية المرتبطة بتأمين الخدمات الحياتية للشعب السوري، ومنها خطوط النفط والغاز، ومحطات توليد الطاقة الكهربائية إضافة إلى سوء الوضع المعيشي المتأثر بالحصار الاقتصادي وأغلبه بتأثير منصات موالية للغرب في تركيا وفرنسا وبريطانيا، وهم يفعلون ذلك خدمة للعدو الصهيوني الذي يستمرّ في السيطرة على هذه المنصات التي ترفع شعار الوطنية تضليلاً لجماهير البسطاء داخلياً وخارجياً، وكان جديراً بالعقلاء إدراك أنّ الحصار الاقتصادي لا يسقط نظام حكم أبداً، بل يسقط وطناً بكامله، ولكن ليس الوطن السوري لصلابة موقف شعبه وإيمانه الراسخ بالنصر ولو وصلت أرقام جنيف المتسلسلة… المائة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى