«الجبال التي أحبّت ظلّي» للشاعر الأردني يونس عطاري مخيّلة تعزف على قصب المزاج

أحمد الشيخاوي

يركلُ كُرَة النّارِ يأخذها في حجرهِ كأنها قمر بارد.

لله درّ هؤلاء كم هم غاوون ووشاة أيضاً. وأي شطحات تلك للخيال؟ تأنف أن تتزمَّلَ بغير قميص زمنها هي نكاية في راهن تجاوزنا بأشواط عدةّ، أبحقّ نكون قد تخلّفنا عن مواكبة مجازره وساديّته وجبروته الذي يتلوّن بغبار شياطين تتجدّد لمحاربتنا والقضاء علينا حدّ الانقراض، بين الفينة والأخرى صانعة كل هذه القيامة وكل هذا الهول؟

إنّهم وباختصار شعراء حقبة تُكتبُ بالدم، لم يعُد في وعيهم خيط رابط بتعاليم المدينة الفاضلة. طلّقوا أبراجهم العاجية ليركبوا موجة احتواء مشاهد الواقعية والنهل من تفاصيل الآني على نحو يسعف في صياغة جديدة لذات التشظي وحياة الانشطار.

ذلكم الواقع الأشبه وإلى حدّ بعيد بكرة من نار، من مثالب المهارة الإبداعية، أخذ تلك الكرة الملتهبة في انكفائها على عوالم متداخلة ومتشابكة، الكفة الراجحة فيها للمفارقة والغرائبية والأنانيات المريضة والدموية والاضطراب، فيما الخاسر أولاً وأخيراً جراء كل ذلك الإنسان والضمير الحيّ وصوت الفطرة ونواميس الاعتدال.

قلت أخذ تلك الكرة من الجحيم، ثمّ وضعها، بشجاعة، في الحجر وكأنها مجرّد قمر بارد، تماماً مثلما يطالعنا بنظير ذلك شاعرنا المتألق يونس عطاري، على سبيل الاستعارة الكلية إذ تغالب التنميق اللغوي لتجذب إلى عروض صورية مشوّقة تضخّ في طرف التلقّي زخماً وباقة من حكم مخيلة على ما يفيد العزف على قصب المزاج وشقّ كوة في أفق الكتابة حال الانسداد الروحي واختناق الذات، كضحية لجلاد أكبر اسمه راهننا المفتوح على مزيد من احتمالات الوجع والتلاشي والدمار.

لعلّ هذا ومثله غيض من فيض، لما يمكن أن تشي به التجربة المغايرة مثلما يرسمها ركوب موجة جديدة للحكي، للبوح بمعزل عن الصوت الباطني أو رد الفعل المتسرّع في جنايته الشنيعة على شتى ما يتيح تغذية أيديولوجية وفنية على حد سواء، مناهضة بالتمام لجملة الطلاسم والمعميّات المعمّقة لإفراغ الذات وتشتيت طقوس الإشباع.

إنه وبمنظومة رؤى على هذا الطراز، يطالعنا المبدع الأردني النّبيه يونس عطاري بأجدد إصداراته عن دار الأهلية/عمان.. الأضمومة الموسومة بعتبة مستفزة جداً ومقلقة ومثيرة للجدل ومغرية جداً وباعثة على افتضاض بكارة ما تحجبه ماورائيات ألوان شعرية هامسة بعذابات الذات وتخبّطاتها والتواءاتها مع الدروب المقنّعة للحياة المعاصرة ضمن حدود المواجهة غير المتكافئة ولا العادلة التي تحاصرنا بها المادية الحديثة.

تلك بعض ملامح الذات في محاولات فكاكها من سلطة الواقع كضرب من تكالب على نورانية وأخلاقية وفردوسية وطفولة المحذوف.

شعرية ديوان الجبال التي أحبّت ظلي كاشتراط يمليه توهج البصيرة، يزدري المحاباة، إشفاقاً عليناً وهو ينزع بنا صوب ما وراء الخطوط الحمراء النارية وفي مغامرة كلامية باذخة تهدم لتبني وتُردي لتهب الحياة.

لنتملى سوية هذه الاقتباسات ليتبين لنا بعض ما ذهبنا إليه:

«يرشُّ

بالرّحيلِ

ظهري

فأسندُ إليهِ قلبي

وأُعلّقُ الفاكهة».

«ولا قدَم لدي

لا سكنْ

علّقتُ بالنّخلةِ قلبي

واهتديتُ:

أنّ هوايَ هو الهوى».

«يا ذا القامة المئذنة

إنّي أصلّي وأحتسبُ المُشتهى

تعالَ

بكوزينِ من الذرة المشوية

لتدخلَ المنام».

«من هزّ الأرضَ كي أنامَ في انشغالِ

الجيرانِ بِتلاوةِ الكتابِ على الذاهبين؟

وتركَ نجمتهُ بلا اتّساع ـ في أيلولَ ـ

ليراني؟

هذا الوجعُ متواضعٌ جدّاً يكفي اثنينْ

كي يكونَ أحدهما منفيّا

والآخرُ قطارْ:

الحزنُ وقتٌ كاملْ

الدّربُ ضيقة».

«غريبٌ عن المطرِ

وداركَ منْهلٌ يسحُّ منه ماءُ الورق

وأقوالكَ تسقطُ في الرّيح

يسدُّ نسجكَ باللغة كوة كمن يرتّقُ ثوب «الخطاب»

دوّنتُ كالورّاق جسراً من الحرف أو التّنك

صيدُك حرف قربَ قلبكَ المنجلي يقطفُ الوردة الدمشقية

من دون أن يرتفع ذلك المهماز في خاصرة الفرس».

«في حضور الفراشة لا تُجدّل مدارات عُزلتكِ على هواكَ

خلِّ لقلبك العائد من سفر النحلةِ فضاءً كافياً فالسارق الماهرُ

يركُلُ كرة النار يأخُذها في حُجره كأنها قمر بارد».

«.. والآنْ

أغصُّ بالحنينِ وفقْدِ الأمكنةْ

أستُرُ وقتَ النّداء بين الرّاحتينِ

وأجاورُ الوعدْ»

«أعلنتُ طيشي

وارتدَتْ رملها الروح

فترامتْ وارتميتُ»

«خيولُ الموج

تدافعتْ تحاورُ الاستواء العالي

عند ارتفاع الدهشةِ الأولى

وقالتْ:

لن أزفَّ إلى الترابِ حبيبي

أنا فتاةُ الماءِ..

اغتسلتُ تحت عرش الدوالي

بالبارودِ

والحنّاءْ»

«هي

البلدانُ طلَلُها.. والغيمةُ أيضاً

فهلْ للشجرةِ دخولٌ

.. أو مسافةْ؟

لبستِ العتمة في دائرةِ الماءِ والفخِّ

وغابتْ

.. أسمعُ سيرةَ جهلي

تركُض فيّ:

أين اكتشفـتِ عباءةً للقولِ؟»

«التّاريخُ ظلُّ قبّعتك

في هذا الحرِّ

..ادنُ من قصبِ المزاجِ

فالدخول في محجركَ: عري

الخروجُ منهُ لباسك في انجذاب الرّاحلينَ

إليكْ»

« برملٍ قليلٍ

وقشّ

أبني بيتي وأحلامي»

«أعيد ترتيب الإله بين الصخور

والطين

أشعلُ الأزرقَ

أسكُبهُ في صحونٍ من وجعي

وأحتمي بالهواءِ

بالنّدى

والنوافذْ»

«كلنا جلاد

وكل وطن ضحية»

«أنا الصّريخُ

أحبُّ فاكهة الشام

يا من أخذتكِ

الرّجفةُ

تفرّين من «نجد» كما «الحجاز»

فتنتُكِ الشآمُ

تُضلّكِ وتهديكِ

الوجوهُ تغرفُ من النّهر».

طرائد نصّية تتنوّع وتتوزّع حسب التدفّق الواعي لتيار الكامن وتبعاً لمنسوب الشحنات الوجدانية والمعرفية، تتفشى تصاعدياً وباعتماد نفس متقطّع يلوّن المرحلة بمعالجات تقتضيها النرجسية المقبولة إذ تصقلها الثيمة المحتفية بمرآة الآخر.

هنا يتمّ تشكيل القصيدة من داخل الذات، تماشياً وتناغماً مع إيقاعات سريّة، تشحذ نزيف الواقع الذي لا يتوقف لحظة.

كحالة ترنّم تُتيح لمزاوجة رهيبة بين الفجائي والغنائي، تروم ترجمة مشوّهة مقصودة لهذا الواقع على اختلاف مناحيه، ومن ثم افتعال ترتيبات له وقفاً على إملاءات مناخ الاغتراب والمنفى والعزلة الإبداعية.

كذلك هي القصيدة بعدّها انقلاباً على الذاكرة والانصهار في بوثقة زمكانية محدّدة ومسطّرة سلفاً.. كفعل إبداعي يحدث وتتواتر فصوله ضداً في واقع تجاوزنا بسائر ما نراه ونشهده ونتخيّله.

شاعر وناقد مغربي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى