الحلف الدولي للحرب على «داعش» وميلاد النظام العالمي الجديد
عبد الفتاح نعوم ـ المغرب
أمام الحلف الدولي الأطلسي/العربي للحرب على «داعش» خياران، أحلاهما مرّ، حرب على «داعش» مع سورية وحلفها، أو حرب مع «داعش» على سورية وحلفها. والنتيجة ستكون إعادة تشكيل النظام الدولي بقيادة آسيوية، فمفاعيل تشكيل هذا النظام الجديد وصلت إلى نهايتها، وارتطام التناقضات الكفيلة بالإفصاح عنه وصلت إلى جدار صلب، وهذا الجدار – إن صحّ التعبير- هو «داعش».
هذان الخياران ناجمان عن التبدّلات العظيمة في ميزان القوى الدولي، فالعشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين شهدت ذروة الصعود الأميركي، وانتهت ببدء الانكفاء والأفول. فمن مشروع القرن الأميركي الجديد الذي رعاه ونفذ خطواته المحافظون الجدد، إلى الفشل الذي عضدته نتائج حرب 2006 بين «إسرائيل» والمقاومة في لبنان، ونتائج حرب غزة 2008 ـ 2009، ومن التراجع الذي نقرأه في وثيقة «مجموعة دراسة العراق» لسنة 2006، وتقرير الأمن القومي الأميركي لسنة 2010، إلى الرغبة الجامحة في العودة إلى مربع القوة والنفوذ، وهي الرغبة التي وصلت إلى مداها مع محاولة استثمار تقلّبات وتعرّجات المزاج الشعبي العربي، والتي أجّجتها بشكل أو بآخر سياقات «الربيع العربي».
ستحاول الولايات المتحدة اللعب على مختلف العناصر المتبقية في يدها، لإعادة ترتيب مواقعها ومواقع حلفائها في الشرق الأوسط. وكان طموح القوى الصاعدة في آسيا وحلفاؤهم في الشرق الأوسط عقبة أمام ذلك. فكان «الربيع العربي» فرصة للانقضاض على الوضع، وكسر الصعود الروسي الصيني المترافق والمتناغم مع التمدّد الإيراني السوري، وكان مآل شعارات الحرية والديمقراطية التي خرجت من المساجد في ظاهرة «الجُمعات»، كان مآلها إلى اقتتال عنوانه طائفي ديني وعرقي أحياناً، ومضمونه جيوبوليتيكي، فلم يعد خافياً أنّ الدعم والضخّ الذي أعلنته بوضوح دول بعينها لحركات بعينها كان من أجل كلّ شيء إلا أن يكون من أجل الديمقراطية والحرية!
النتيجة الفريدة التي ترتبت على كلّ ذلك، ظهور تنظيم «داعش»، التنظيم الذي ساهمت عدة خيوط في نسج ثوبه. فالعقائد والآراء الفقهية الموغلة في القدم، إلى جانب التحريض الطائفي الذي قاده الشيوخ المتشددون، إلى جانب التسهيل الللوجستي والدعم المالي والعسكري، وفوق كلّ هذا استعداد «الناتو» وحلفائه إلى التغاضي عن أي عامل يمكن أن يسهّل إسقاط سورية. كلها عوامل أسهمت في ميلاد «داعش»، فالسياق هو المسؤول عن ذلك، والقوى المذكورة هي المسؤولة عن ذلك السياق، والهدف كان ولا يزال واضحاً، صراع في الجيوبوليتيك يستثمر كلّ شيء يجده في طريقه.
الآن تبدّل ميزان الربح والخسارة، سورية لم يعد لديها ما تخسره، حزب الله متمرّس بما فيه الكفاية لحرب «داعش» وغيرها، إيران في موقع يمكِّنُها من دعم حليفيها للقضاء على «داعش»، بل وبدعوة واحدة من السيد الخامنئي أو من السيد حسن نصر الله يمكن حشد مئات الآلاف لقتال «داعش»، فضلاً عن القوة العقدية والقدرة التسليحية والأسلوب القتالي المتميّز الذي يمتلكه هؤلاء.
لكن أي حشد يقوم به هذا الحلف على غرار معركتي القصير ويبرود لقتال «داعش»، هو حشد قد يؤدي إلى نتائج عكسية، فالحرب ستكون حرب استنزاف للطرفين، ولن تتوانى الولايات المتحدة وحلفها عن دعم «داعش» لاستنزاف الطرف الآخر أكثر، ولتعميق هوة التسعير الطائفي والمذهبي الذي أرسته سياساتها وسياسات حلفائها في المنطقة منذ عقود، لكن بالقدر الذي يرتب نتيجة إضعافهما معاً. وسواء قضى حلف سورية على «داعش» وخرج منهكاً، أو أضعفها وأبعدها عن شرق سورية، ستكون الولايات المتحدة وحلفها مستفيدين أكثر، ولذلك لا تريد سورية وحلفاؤها خوض حرب من ذلك النوع.
فلنفترض الآن أنّ «داعش» تمكّن من القضاء على الدولتين العراقية والسورية، وأنّ مشروعه أغرى الكثير من حاملي الفكر المتطرف كي ينضمّوا إليه، فماذا سيكون أمام الأطلسي وحلفائه فعله سوى القبول بحرب كونية على «داعش»، بحيث تكون شبيهة بالحلف الذي عقدته الولايات المتحدة وأوروبا الغربية من جهة والاتحاد السوفياتي من جهة ثانية لمواجهة خطر النازية المشترك؟ أليس مشروع «داعش» -إن تغوَّل- شبيهاً بمشروع النازية؟ ثمّ ما الذي سيخيف «داعش» ومقاتليه من الإقدام على حرب من تلك النوع؟ ألا يعرفون مسبقاً بإمكانية وقوعها إذا تغوّلوا؟ ألا يسعون لها؟ ثم إنّ أيّ حرب تقودها الولايات المتحدة على «داعش» ستمنح هذا التنظيم بريقاً يجعله قطباً جديداً، ولعلّ الكثيرين ممّن أدانوا هذا التنظيم وممارساته سيصبحون من المؤيدين له في حربه ضدّ «الناتو».
ستكون القوى الدولية والإقليمية مجبرة على حرب من ذلك النوع، لكن الفارق أنّ الأطلسي وحلفاءه سيكونون في مقدمة الحرب، عكس الحرب مع النازية، ستكون حرباً ضروساً تخرج منها الولايات المتحدة وحلفها أضعف مما هم عليه الآن، وسيكون ذلك بداية لتشكل نظام دولي جديد دفة ريادته في يد روسيا وإيران. فلا شك أنّ الأطلسي يضع في حسبانه كلّ السيناريوات الممكنة وهذا الأسوأ بينها. لكن هو يطمح الآن إلى حرب على «داعش» لا تسمح لها بالتمدّد الأكبر، ولا تقضي عليها تماماً، لكن أن يتحقق الغرض منها ممثلاً في جلب مكاسب أكثر من سورية وحلفها. طبعاً كلّ طرف في كلا الحلفين ينظر إلى المسألة من زاوية تختلف عن الآخر، لكن أيّ طرف يدرك أنّ الوقت داهم، وزمن التسويات أصبح وشيكاً.
إنّ كل ما يُقال عن الحرب على «داعش» يعكس الارتباك الشديد الذي وقعت فيه الولايات المتحدة وحلفها، وبالمقابل ارتياحاً شديداً لدى الحلف الآخر، فقد منحته تجربة السنوات الماضية إمكانية التأقلم مع جميع الأخطار، فلا حرب «داعش» تخيف سورية وحزب الله، ولا الحصار يخيف إيران وروسيا، ولا الحرب الإقليمية أو العالمية تخيفهم مجتمعين. في حين يصيب الهلع والذعر الحلف الآخر بدءاً من الأردن والسعودية وتركيا وانتهاء بأوروبا والولايات المتحدة. وبالتالي فعليهم إما ترك العنتريات وقبول التنازلات المؤلمة، أو التقدم نحو الانتحار والرهان على «داعش» من أجل الضغط على حلف لم يعد يفيد الضغط عليه، وهم يعلمون جيداً أنّ «داعش» كما هو تنظيم «القاعدة» يقبلون الدعم الأميركي السخي على أن لا يتخلوا عن الحلم بـ»بسط سلطة الخلافة على واشنطن». لا سيما أنه حتى الساعة لا يمكن تكذيب دلائل الدعم والتغاضي الأطلسي عن كلّ ما يقوّي «داعش»، وهي دلائل كثيرة منها تدفق الدولار وثبوت قيمه، وتسهيل التجارة السوداء في السلاح والنفط والأدوية والتغذية مع عدد من الأطراف الإقليمية والدولية، وتمكين «داعش» من أعلى صبيب انترنت يمكنها من رفع أجود وأطول المواد الفيلمية، زيادة على شيوع أنواع من التجارة الدنيئة كالإتجار في الأعضاء البشرية والوساطات في الخطف.
أمن «إسرائيل» وقضايا الطاقة هي الموضوعات الأهمّ في التسوية القادمة، وهي البوصلة التي تشدّ الأميركي وحلفه. لذلك حالما تنجز التسويات بهذا الخصوص ستتداعى كلّ الملفات الأخرى، ويصبح الحديث عن حرب شاملة موسعة بين كلّ الأحلاف والتكتلات الإقليمية والدولية من جهة وبين «داعش» من جهة ثانية، سيصبح حديثاً عن شيء ممكن التحقق. لكن أمام كلّ هذا سيكون على الأميركي خوض الحرب في المقدمة وتَحَمُّل القسم الأكبر من النتائج. فلا يُعقل أنّ سورية وحلفها سيتحمّلون المزيد من النتائج في حرب على نسقٍ رعته الولايات المتحدة وحلفاؤها منذ ما يقرب من الأربعة عقود، هنا ستجد الولايات المتحدة نفسها مجبرة على التسليم بولادة شرعية لنظام دولي جديد قلبه وقيادته في آسيا، وإذا كان الحلف الأورو – أميركي قد قاد العالم بمنطق الدفاع عن الديمقراطية، فلن ينقاد العالم وفق موازين القوى الجديدة والتي هي قيد التشكل، لن ينقاد إلا بمنطق سيادة الدول وسيادة القانون الدولي.