الوقوع العبثي تحت سلطة قارئ عليم..

النمسا طلال مرتضى

ثمة أسئلة سالفة بقيت معلقة على مِشجب الانتظار. تستدعي أجوبة شافية وكافية من دون مواربة أو تلكؤ. لكنها الحيرة المفتعلة التي يقع فيها اللاجئ القابع تحت ظل صقيع روحه في منفاه الرخيم حين يتحول مساؤه نقمة. أو مثل سائل لزج ومقرف، يفرزه عنكبوت معمّر، احتلّ من دون إذن ركناً له في إحدى زوايا الغرفة. كثيراً ما يشاغلني احتياله – أي العنكبوت – حينما يوارب فراشة رهيفة الجناح ليدخلها في شرك حباله الممتدة نحو باقي الأرجاء الأخرى.

بدءاً بالسؤال، لماذا يجد البعض منا، شيئاً منه أو كله في شخصية محورية لأحد أبطال مروية ما، أو فيلم، لدرجة أنه يتقمّص الدور تماماً أو يعيشه على الأقلّ في المتخيّل!!

في مقام سالف من مفاز الحكاية، ثمة أصوات خرجت من صلبِ النص، بعد أن تحرّرت من سلطة الكاتب الرقيب، لتفرد أوراقها على طاولة القراءة.

في لحظة ما، أدركت بأنني كنت مخطئاً تماماً في تقديري للأمر ككاتبٍ يجعل من القارئ شريكاً فعلياً في ما يكتب. توهّلت لبعض الوقت وبعدما تلمّست باليقين الملموس، بأن هناك حراكاً يحتشد كأصوات فاعلة في بهو الحكاية، تسعى للتمرّد عليَّ، عبر جري لتفاصيل يريدونها لتغيير دفة السياقات.

توجّساً.. ومن بابٍ أَوْلَى. ولأن نفس الكاتب غالباً ما تكون النفسُ أمارةً ومتفرسة، لدرجة انها تُشغل حواسها كلها، ليس لشيء الا كي تبقى حبكة الحكاية بِيدٍ أمينة.

ماذا يعني كل هذا الضجيج في ظل مطالبة عارمة من داخل نص الكلام وخارجه لاستحضار «أبو شندي» من هجعته التي طالت، بعد أن تغيّرت موازين القوى على أرجاء الحكاية على الأقل..

يعني بصراحة لم أجد تفسيراً مقنعاً أو دلالة ما أتكأ عليها لِأبني مقولتي، حول استدعاء الرجل كيف لا وهو – أي أبو شندي – ممن فات أوانهم، اصطلاحاً أصبح رجل منتهي الصلاحية، مثل حبة فياغرا مغشوشة يُمني بها رجل متقاعد روحه، علّه ينال نصف انتصاب يحفظ به ماء وجهه حين الوقوع في شرك عنكبوت – غانية – من النوع اللذيذ.

لا مناص من المواجهة والرضوخ لسلطة الأصوات التي بدأ يتكاثف حضورها تباعاً. وهذا ما يزيد في تشتت الفكرة وتبديد خيوطها، لانشغالي البديهي بمجموعة من التكهنات والاسترجاعات، التي لا تنفك عن دغدغة تلافيف رأسي، عمن أرسل لي جملة متصلة منفصلة من الرسائل عبر الهاتف تشي كلها، بأن كل ما أكتبه عن مغامراتي الدونجوانية، كزير نساء من الدرجة الفاخرة، ليست إلا زوبعة كاذبة وافتراضية في فنجان الحبر، افتعلتها لكسر رتم الحياة الرتيبة في المُغترب المنطوي على ذاته. وأن النساء اللواتي ضاجعتهن في القصائد، وحملنَ مني سفاحاً، وبتّ أتنصل من فعلتي معهنّ بعد أن انتفخت بطونهن حدّ الفضيحة. مجرد ادعاء كاذب يُراد منه اصطياد القارئ الظٓمِئ حدّ الكبت. بالتأكيد أن كل هذا وبالقول القطعي، كذِب وبعضٍ من أضغاثِ أوهام كنتُ أتخيّلها في ظل فراغي. أما الشيء الوحيد الذي يمكن الوقوف عنده، هو أن كل تلك الحسناوات التي عاشرتهن سِفاحاً، بالفعل خرجن من صومعتي وهن حاملات مني بملايين الأفكار وليس سوى غير ذلك، وأنهن ما زلنا عذراوات لم يمسّسهن حبر.

بالطبع كان كل ذلك فقط لتعمية الحكاية وحلحلة أنساقها تباعاً، وهي بدعة أخرى أجترِعُها للتحكم بزمام الأمور وهي وصفة مجربة على الواقع اليومي، متمثلة بالمقولة الدارجة «فٓرِّقّ تٓسُدّْ». اتخذتها دريئةً أتلطى وراء متراسها – من عيون الفضوليين – وأنا أدلف «باب الليل» – مروية «وحيد الطويلة» – نحو مقهى «لمة الأحباب» التونسي العامر برواده، كخلية نحل فاعلة، أو كجيش نمل يعمل بكد عبر أرتال وخطوط بشرية منظمة في غاية الدقة من دون أن تتسبب بأي حوادث تذكر، حراكه لا يستكين، مثل سوق مكتظ قائم على العرض والطلب.

الجلوس في إحدى نواصي المقهى يتيح للمراقب من خارج النص وعن كثب، رصد معظم الحراكات الفائرة وترتيب الصفقات والتي تتم بهدوء تامّ وسلس، عبر إيحاءات وإشارات بين ركاب طاولة وأخرى.

طبعاً مع الحذر الممنهج للتفلت من المراقبة الشديدة الانتباه من قبل صاحبة المقهى الغانية الأولى، حيث إنها تلفت أنظار الزبائن عبر «مورس» خاص بينها وبينهم كرواد مداومين، بأن هناك ضيفاً جديداً، لربما يمثل جهة أمنية ما، وهذا لِأخذ الحذر والحيطة ليس إلاّ على الرغم من معرفة الجميع بأن ما يحصل هنا هو أمرٌ لا يزعج السلطات، لكونه بعيداً كلياً عن فتنةِ السياسة، ولا يشكل تهديداً للأمن العام. لكنه الهاجس الحارس في كل منا، والذي يفيق من منامه حين يأتي أحدنا إلى المقهى بغية مواعدة غانية ما، لقضاء لحظات حميمية بعد الاتفاق على السعر والوقت والمكان. حيث تبدأ العملية أولاً بغمزة ناعسة، كمفتاحٍ أول لفك كود الكلام، ثم تنطلق المرحلة الثانية والتي تتسم بِكسر حاجز الوصل بينهما من خلال إرسال كأس شراب عبر نادلة المقهى للهدف، كعربون أولي لفتح شهية الحكاية أو دفع فاتورة طاولتها، بانتظار الرد الذي يتأخر في أغلب الأحيان كافتعال لتأجيج الحريق، أو ما يطلق عليه بالمصطلح المتداول، الحرب الباردة، وهو ما يسهّل لها التحكم بالسعر. في حين أن هذا الانتظار المقصود، والذي أثبتت الدراسات بأنه – في مثل هذه الأمور – من أنجع الأسلحة العالمية المجربة، والتي يتم من خلالها إسقاط أكبر رجل مقاوم في براثن العدو من دون مقاومة، الرد الذي يأتي بالإيجاب في أغلب الأوقات عبر الأثير وهو عبارة عن قبلة شكر، تطبعها الغانية على رؤوس أصابع يدها ثم تدفعها في الهواء.

تحضيراً للجولة ما قبل الأخيرة والتي سيتم الاتفاق عليها لاحقاً، والتي تنطلق بعد دخول الرجل حمام المقهى كي يفرغ ما في مثانته، بانتظار أن تلحق الطريدة به بحجة إصلاح ما تخرب من زينتها لسوء الطقس، ليكون اللقاء جنباً إلى جنب، عندما يتناسقا معا بمحاذاة المغسلة.

مرحلة مهمة ومصيرية، تبدأ بالتغسيل وتنتهي بتبادل أرقام الهواتف. هنا تمثل هذه المرحلة تماماً لحظة وقوع الرجل مثل فراشة رهيفة الجناح في شرك عنكبوتٍ لئيم، احتل عن سابق نية زاوية من غرفتي الباردة، ليس لشيء الا ليبادلني الأدوار، ويحوّلني من جانٍ إلى مجنيّ عليه بإرادته وبكامل أهليته، حيث ينتهي فصل كامل على أمل اللقاء غير المباشر مع «أبو شندي» في محضر مقبل للوقوف على مطالب الجماهير القارئة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى