1949 – ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان 5
اياد موصللي
في المنطقة المعروفة «بمنقع التفاح» الواقعة بين الحدود اللبنانية السورية قرب الممرّ المؤدّي إلى دير العشائر راشيا الوادي… كان مركز تجمّعنا حضر الزعيم وألقى فينا خطاباً ومما جاء فيه: «إنكم ذاهبون إلى لبنان حيث اعتُدي عليكم وامتُهنت كرامتكم.. انّ الحكومة اللبنانية اتهمتنا بالتآمر على سلامة الوطن والتعاون مع الصهيونية.. ألا انهم هم عملاء الصهيونية.. اذهبوا ودافعوا عن كرامتكم.. ولسوف تواجهون بقيادة الرفيق الصدر عساف كرم الجند.. أوصيكم بالجند فهم آباؤكم ومنهم أبناؤكم، انهم ليسوا اعداءكم فلا تؤذوهم ولا تقسوا عليهم.. دافعوا عن أنفسكم أوصيكم ألا تعسفوا واشعروا الأهلين انكم أتيتم لتحريرهم ولو اكلكم الجوع فلا تمدّوا أيديكم إلى شيء ليس لكم ابداً…
بعد إنهاء الخطاب ودّعنا الزعيم بعد ان صافحنا فرداً فرداً وذهب…
توجهنا نحو سهل سحمر ونزلنا نقطة جبلية وصعدنا مرتفعاً ودخلنا مغارة تدعى معارة الضبع .. جلسنا وقد مضى علينا منذ مغادرة دمشق ما يقارب 18 ساعة دون طعام.. كنا ننتظر وصول بعض الرفقاء وإحضار المؤن والطعام.. بعد طول انتظار حضر رفيق عرفنا اسمه ديب الشمعة وأحضر معه كيساً كبيراً فيه كعك قرشلي .. جلس قليلاً وتحادث مع الصدر عساف كرم.. ثم غادر..
هنا اتوقف أمام حالة لا يمكن ان نرى مثلها في غير هذه المدرس،ة لا سيما في ظرف مثل الظرف الذي كنا فيه لم نكن ننقل معنا سوى أسلحتنا والعتاد… خرجنا من دمشق قرابة الساعة السادسة مساء، مرّ يوم 3 تموز، والساعة الآن تجاوزت الثانية عشرة من ظهر يوم 4 تموز، أيّ مضى علينا ما يقارب ثمانية عشرة ساعة دون طعام، كان المتوقع وصول بعض المؤن من مديريات المنطقة التابعة لمنفذية البقاع… عضّنا الجوع وشعرنا بهمهمته وتأخر وصول الرفيق ديب المكلف بالارتباط بيننا وبين مسؤولي الحزب في المنطقة، ولما وصل الرفيق ديب كان يحمل معه كيساً فيه كعك «قرشلي» وضعه وبعد استراحة ذهب ليعود بالمؤن… هنا وزع الصدر الكعك علينا فأصاب كلّ واحد منا أربع كعكات، وقال اعتبروا انّ كلّ كعكة هي زاد يوم فإذا لم يتمكن رفقاؤنا من إيصال المؤن أو تعذر ذلك فهذه مؤونتنا في الوقت الحاضر، ولن نمدّ يدنا إلى أحد أو نغتصب مواد من القرى المجاورة! نعم هكذا حرفياً وأنزلنا من مخزون العقل والفؤاد من التربية والإيمان القومي الاجتماعي ما يملأ معدتنا مسانداً قطعة الكعك… نعم نعم هذه المدرسة هيّأتنا لأمر خطير يساوي وجودنا، لذلك هانت كلّ الصعوبات، حضر الرفيق ديب في ما بعد ومعه مؤن كافية لشحن المعدة الخاوية وإعطائها ما يمدّ في صمودها إلى يوم آخر…
أتوقف قليلاً أمام خطاب الزعيم.. مجموعة مسلحة متوجهة لمواجهة هدف معاد قائدها يخطب فيها فماذا نتوقع ان يكون الخطاب في مثل هذه الأحوال.. إنكم ذاهبون الى لبنان حيث اعتدي عليكم وامتهنت كرامتكم.. دافعوا عن أنفسكم، لقنوا المعتدين درساً لن ينسوه، ولقنوا جنودهم أيضاً ما يستحقون.. اوليس هذا هو الكلام الذي يقال في مثل هذه الظروف.. سعادة لم يقل ذلك قال: «الجند ليسوا أعداءكم فلا تؤذوهم ولا تقسوا، الجند فيهم آباكم ومنهم ابناؤكم..
هذه المناقبية، هذه التربية القومية الاجتماعية التي نشأنا وينشأ عليها كلّ من انتمى لهذه المدرسة ليس لنا من عدو يقاتلنا في ديننا ووطننا إلا اليهود.. هذه المناقبية هذه الأخلاق تجعل إنساناً يتحمّل الجوع 18 ساعة ثم يتقبّل كعكة واحدة زاده ليوم كامل إذا لم يكن هنالك زاد.. أو طعام بديل.. هذا المقاتل يحيا بالمناقب والمثل والإيمان وليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بالروح والإيمان وبأنّ الدماء التي تجري في عروقه هي وديعة الأمة لديه متى طلبتها وجدتها. اذا أكلكم الجوع فلا تمدّوا أيديكم إلى ما ليس لكم… القومي الاجتماعي إنسان يؤمن بأننا نموت لنحيا وتحيا أمتنا وتنتصر نهضتنا التي هي قضيتنا.. أما الآخرون فيعيشوا ليموتوا.. القوميون الاجتماعيون نخل هذه الأمة شرشهم في الأرض وجذعهم يرتفع في سماء الوطن.. هم نبت نقي باسق..
أربع كعكات زاد لأربعة ايام.. لجماعة لم تأكل منذ 18 ساعة وهي ذاهبة لتحارب خصماً معتدياً شرساً.. وصدق فيهم قول الزعيم: «لم آتكم مؤمناً بالخوارق والمعجزات بل أتيتكم مؤمناً بالحقائق الراهنة التي هي أنتم…»
هذه الواقعة ليست قصة نرويها للتباهي والزهو ولا هي تسجيل لأمر تراتبي مبني على نظام صارم يفرض الطاعة والولاء وحسن التنفيذ للأوامر… هذا الموضوع ليس في هذا السياق لأنك لا يمكن ان تأمر جباناً ليصبح شجاعاً ولا جائعاً فيشبع إطاعة وولاء.. إنها أخلاقيات ومناقب ولدت من إيمان ومن طاعة ذاتية أنتجها سمو الخلق والتربية وهي ليست وليدة تجارب سابقة ومماثلة، انها قوة دفينة تولد ذاتياً وبإرادة وتصميم عندما تسمع النداء فتكون التلبية.. أربع كعكات زاد لأربعة أيام.. تجربة لم تحدث قبلاً ولا مثيل لها، حالة فرضت نفسها.. وتلبية ذاتية إيمانية نفذتها.. لو كان أمراً صدر بهذا الشأن لكانت الإجابة ان يرمي المأمور الكعكات بوجه الآخر ويقول له انني جائع أريد طعاماً ولن أتحرك من مكاني قبل ان أسدّ جوعي.. القوميون ملأوا بطونهم الخاوية بإرادة حازمة صبر وتحمّل ريثما يأتي ما يبدّد الجوع، أما حزام الأمان فهو الإيمان.. هذه هي خلاصة دروس في سخاء العطاء من أجل البقاء، بقاء الأمة.. القضية فلا سيف يهدّد، ولا عصا تضرب فتوجع.. رادعنا من ذواتنا وقاعدتنا معرفة ما نعمل ومن أجل ماذا نعمل.. لهذا كنا أقوياء ولهذا قال سعادة، إنّ فيكم قوة لو فعلت لغيّرت وجه التاريخ.. ما أشدّ اعتزازي بكم.. وما أروع النصر الذي أسير بكم إليه.. نصر على الانانية والفردية وحب الذات..
النبت الصالح نما بعدما روته في تربته الغنية المبادئ السورية القومية الاجتماعية.