فرنسا «النزيهة»
روزانا رمّال
تحدّثت الوزير السابقة للخارجية الأميركية في غير مناسبة عن تداعيات الحرب على سورية ومجريات أحداث الربيع العربي وآخرها في كتاب مذكراتها في عهد أوباما، وتحديداً ما جاء حول نيات تغيير شكل الخريطة السياسية بالمنطقة من مصر حتى ليبيا وسورية، مستندة الى حلفاء بلادها الثابتين بينهم الدول الخليجية ودول أوروبية رئيسية مثل بريطانيا وفرنسا، من جهته كشف الرئيس الأميركي الأسبق في عقيدة أوباما، الحديث الشهير المؤلف من 45 صفحة، أسهب فيها أوباما لمجلة اتلانتك بتوضيح ملابسات التعاون بين الإدارة الأميركية وبعض الدول الخليجية، حيث أكد أن هناك من كانوا يرتشون من دول خليجية ضمن إدارته، حيث تدور الشبهات حول هيلاري كلينتون وجون كيري أيضاً وغيرهم، اعترف أوباما بأنه يفتخر باللحظة التي ارتدع فيها عن قصف سورية بذريعة الأسلحة الكيميائية، اعترف أيضاً أن المملكة العربية السعودية ودولاً خليجية أخرى وراء دعم المجموعات المتطرّفة وتجنيد مشايخ بينهم أندونيسيون وآسيويون.
فرنسا «النزيهة» التي ضغطت أجهزة استخباراتها الكبرى المرتبطة بواشنطن وكشفت عن أوسع مدى للتدخل بالانتخابات عبر زجّ المبررات نفسها التي تحول دون «احترام» بعض المرشحين مثل فرنسوا فيون، ما أخذه نحو العزوف عن خوض غمار الانتخابات الرئاسية، والسبب يعود لما سُمّي «فضيحة» إثر تقارير صحافية عن تقاضي زوجته، بينيلوبي فيون 500 ألف يورو كرواتب خلال 8 سنوات، بصفتها مستشارة لزوجها في مجلس الشيوخ، من دون أن تمارس الوظيفة فعلياً، وتقاضي ابنة فرنسوا فيون ماري وابنه تشارلز حوالي 84 ألف يورو خلال الفترة ما بين 2005 و2007، بصفتهما مستشارين لوالدهما البرلماني، بينما كان كلاهما في مرحلة الدراسة… ردّ فيون على هذه التّهم كان أنها عارية عن الصحة نافياً هذه المخالفات، مؤكداً أن زوجته تعمل مستشارة له بالفعل، وأن القضاء لا يتمتع بسلطة التحقيق في تعيينات النواب لمساعديهم.
النزاهة الفرنسية أجبرت فيون على الاستقالة، لكنها لم تلتفت لشراكة الرئيسين الحالي فرنسوا هولاند ونيكولا ساركوزي في بيع مرافق عامة وأبنية ومخلّدات فرنسية للخليجيين أبرزهم قطر، حيث استاء الشعب الفرنسي لدرجة الانغماس الحكومي حتى انتشرت تعابير الامتعاض والانتقاد الإعلامي والشعبي التي تتمحور حول «بيع فرنسا لقطر».
وثائق عديدة خلال الحرب السورية تحدثت عن هدايا باهظة الثمن قدّمت للرئيس نيكولا ساركوزي وفرنسوا هولاند من ضمنها طائرات خاصة، تمويل الحملات الانتخابية الفرنسية أيضاً للمرشحين كان للمملكة العربية السعودية اليد الطولى فيها وأكثر من شهد على ذلك هو الراحل رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان الأسبق الذي ساعد المرشح رئيس بلدية باريس آنذاك جاك شيراك بأموال سعودية للوصول الى سدة الرئاسة الفرنسية، وما نقطة بداية التدخل الخليجي في فرنسا إلا تلك الحقبة.
لا يقيل القانون الفرنسي رؤساء تعاونوا مع مَن يموّل الحركات الإرهابية في الشرق الاوسط، ومع من عاث خراباً وفساداً في باريس، ومَن استجلب القوى المتطرفة الى عقر دار الفرنسيين. لا يبالي القضاء الفرنسي كثيراً بمحاسبة الرؤساء/ اذا ما كان القرار أميركياً، ولو تعارض مع المصلحة الفرنسية، فضائح ليبيا التي لاحقت ساركوزي والناتو معها، وهي نفسها التي خضت القضاء البريطاني وحاكمت دايفيد كاميرون وأدت لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتحييدها قدر الإمكان كلّها أمور لا يبالي بها القضاء الفرنسي الذي فقد نزاهته بازدواجية المعايير الواضحة.
باعت فرنسا لقطر قصر «كلام ــ غالاس». وهو أحد أهم المباني التي تملكها في فيينا وأثار مشروع بيع القصر، الذي أثير قبل 15 سنة، ونفذ في 2014، استياء الجالية الفرنسية ومحبي الثقافة الفرنسية في النمسا الذين اعتبروه تخلياً عن أحد رموز الوجود الفرنسي في البلاد… صفقات طائرات منحت للقطريين مؤلفة من 24 طائرة رافال عام 2015 في وقت كانت فرنسا قد رفضت تسليم روسيا سفينة ميسترال، لأن موسكو خالفت القوانين الدولية في السنوات الأخيرة.
واشترت قطر ملاعب وأندية رياضية فرنسية عريضة.
فرنسا «النزيهة» التي تضيِّق على المرشحين كشفت عن وجه المرحلة الانتخابية المقبلة، وعن تبدل «مزاج» الاستخبارات الفرنسية المرتبطة بالأميركيين بعد أن تبين أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عاجز عن التقدم نحو خطة تعاون جدية مع روسيا وانكفائه حتى اللحظة.. وإلا فما جدوى الحملة في وقت متأخر على فيون؟ بدأ التصويب على المرشحين الفرنسيين الذين يؤيدون أي تعاون روسي أميركي أو يوصفوا بصداقات مع الرئيس بوتين كالمرشح فيون الذي عرف بصداقته الجيدة لبوتين ولزيارته وتمضيته قسطاً من الراحة معه في منتجع سوتشي الروسي.
الحديث عن تدخّل استخباري روسي بالانتخابات الفرنسية لاحق فيون أيضاً، وهي التهمة نفسها التي أخذت تجتاح حيثية الرئيس المنتخب دونالد ترامب وفريق عمله حتى اضطر لإقالة مستشار أمنه القومي الذي عيّن لأسابيع فقط لعلاقته مع سفير روسيا منذ ايام الحملة الانتخابية، كما روّج البيت الابيض.
لا تريد الاستخبارات الأميركية أن تفلت زمام الأمور وتتصدر روسيا نخبة الدول الأوروبية الصديقة لها مثل فرنسا. تخشى الاستخبارات الأميركية من الكلمة الطولى لروسيا اوروبياً، وهي مقدمة لشراكتها هموم وشجون العالم واقتسامها، لا تريد واشنطن روسيا حليفاً أو شريكاً، الاعتراف بشراكتها يشبه الهزيمة.. أمر صعب ومعقد.
أخيراً، ليس وارداً التمسك بمرشحين يدعمون بقاء الرئيس السوري بشار الأسد حليف روسيا وخصم «إسرائيل» كفيون ولوبان ممن يجاهرون..
فرنسا النزيهة «تحتضر».