عنف اللغة: أنت كافر… أنت إرهابيّ.. أنت «مَرا»!
نصّار إبراهيم
لمناسبة يوم المرأة العالمي 8 آذار وأمور أخرى .
«عنف اللغة»، هو عنوان كتاب من تأليف الباحث الفرنسي جان جاك لوسركل، ومحور الفكرة التي يدور عليها النقاش هي عندما يقوم شخص ما باستعمال اللغة، من يكون المتكلم؟ هل هو الشخص ذاته، أم أن اللغة هي التي تتكلم؟ بكلام آخر: هل يكون الشخص المتكلم مسيطراً سيطرة تامة على «الأداة» التي يستعملها، وهي اللغة، بحيث إنه يفعل بها ما يريد وفق شروطه الخاصة ويشكّلها وفق تصوراته المسبقة، أم أنّ اللغة تلعب دوراً أساسياً في عملية التعبير، بحيث تفرض شروطها هي وتتحول «متكلّماً» أو لاعباً أساسياً في العملية؟ من مقدّمة الكتاب .
الكتابة بحسب لوسركل هي مشروع ينطوي على أخطار وهي مشحونة بدفعات من الطاقة النفسية والعاطفية لأنها تنطوي على علاقة انتهاكية بل حتى سفاحية بين الكاتب ولغته الأمّ.
وبالتالي، فإن اللغة ليست أداة حيادية، بل هي مجموعة من الكلمات المشحونة بقوة الرغبات والأحقاد والحبّ ومشاعر الذنب، وتكون نتيجة ذلك صوغاً آخر لتناقضات المركزي.
إذن، اللغة ليست مجرّد أداة تواصل بل إنها فاعل في كل الاتجاهات، إنها أداة تواصل وردّ فعل في بعض وظائفها، كما هي أداة سيطرة وهيمنة، وأيضاً أداة هروب وتملّص، كما هي أداة قهر وعنف ضارية.
خطورة عنف اللغة تأتي عبر مراوغاتها وتقديم نفسها باعتبارها وعياً وسلوكاً حرّين، وفي قدرتها على التملّص، فتحيل ذاتها إلى الوعي والثقافة السائدة، وفقط هي مجرد أداة للتعبير وإيصال الرسالة، بمعنى أنها حيادية وليس لها أيّ دخل بما يجري.
اللغة هي نتاج التفاعل المتحرك والمعقد للوعي مع الواقع وعلاقاته ومعادلاته المعقدة، أي أنها نتاج التفاعل بين الذات والمجتمع والطبيعة، التفاعل الممتد في التاريخ البشري بكل ما رافقه من تحولات وتغيرات وتحديات وأسئلة، كما هي أيضاً نتاج علاقات القوة والهيمنة التي تسود في تلك العلاقات وهي محصلة ممتدة في التاريخ والحاضر والمستقبل. وبالتالي فهي متحركة ومتغيرة باستمرار.
يتقاطع مفهوم عنف اللغة في بعض الأبعاد مع مفهوم العنف الرمزي، فهو عنف يبدو غير مباشر، مجرد سلوك أو حركة أو لفظ أو تعابير جسدية، لكنها تحمل في مضامينها الإهانة والاستخفاف والتحقير والدونية والتمييز والتهميش، وكل ذلك بهدف السيطرة والقهر والردع، أو قد يكون ذلك العنف على شكل تطويع وإخضاع عبر اللغة من خلال التمويه والإحالة وتحريك المعنى من خلال التشبيه والكناية والرمز وحركة الدلالات.
بهذا المعنى، فإن عنف اللغة بقدر ما يرتكز للمباشر في اللغة فهو أيضاً يرتكز للمضمر فيها.
هذا العنف يتأسس في تربة الواقع، وفق صيرورات عميقة تستند إلى علاقات القوة القائمة في كل مرحلة تاريخية ارتباطاً بالخصوصيات والسمات الاجتماعية والثقافية والحضارية لمجتمع محدّد، وهو عنف عابر للحدود والمجتمعات.
وبقليل من الانتباه والتحليل سنكتشف كم أنّ عنف اللغة ظاهرة حاضرة وممتدة في الواقع والممارسة الاجتماعية.
الفكر «الديني المتطرّف»: كافر، علماني، رافضي، ملحد. يكفي أن تتأسس لهذه المفاهيم مرجعية ثقافية وفقهية لتتشكل لها حاضنة وحوامل اجتماعية وبهذا يتم تشريعها، وبعدها ما أن يتم إطلاقها على فرد أو جماعة حتى يبدأ العنف اللغوي بممارسة سطوته، حينها لا يعود أحد يتذكر أو يناقش صحة ودقة المرجعية، إنها حالة انفلات عنفية يصعب وقفها وصدها إلا بفعل تحولات اجتماعية تضرب جذورها ومولِّداتها في الواقع.
خطورة عنف اللغة في هذا السياق أنه عنف قيمي، الأمر الذي يشرعن لاحقاً ويبرّر ممارسة العنف الفيزيائي ضدّ من تطلق عليه تلك الصفات من إساءة وحصار وقتل وذبح وسبي واغتصاب. لا بل يمتد ذلك ليشمل المنجزات الحضارية الإنسانية باعتبارها وفق هذا الفكر التكفيري وترجماته في الخطاب. واللغة تمثلات للشرك والكفر وبالتالي يجب تدميرها، لقد شاهدنا ذلك في تدمير الأوابد الحضارية والثقافية في العراق وسورية وقبلها في أفغانستان.
في هذا الإطار، تتركب المعادلات وتصبح أكثر تعقيداً، حيث يُعاد توليد عنف اللغة المشار إليه في المستوى الأول وتوظيفه في دينامية تبدو نقيضة، وهي ممارسة العنف اللغوي والمفاهيمي من الاتجاه الآخر، مثل ظاهرة الإسلاموفوبيا في أوروبا، حيث يتم وصم كلّ المسلمين بالتخلّف والعنف والأرهاب، وهكذا تصبح تجليات وتعبيرات الإسلاموفوبيا هي الوجه الآخر لمقاربات وعنف الجماعات التكفيرية.
في هذا السياق، يأتي مفهوم الأرهاب، إنه مفهوم يحمل شحنة سلبية عنفية كثيفة جداً، فوصف شخص أو جماعة أو تنظيم بأنه إرهابي، يعني في الوعي الجمعي أنه مجرم وقاتل من دون أي رادع أخلاقي أو قيمي، ما يشرعن استباحته وقتله.
هنا تجري أيضاً عملية تأسيس عميقة للبيئة الثقافية والفكرية من أجل تهيئة الوعي ليتقبل المفهوم ويستدخله في قاموس الاستخدام اليومي السياسي والاجتماعي والثقافي.
هذا يشترط بداية تأسيس وتعميم منظومة المعايير وفق ثقافة الجهة المهيمنة ومصالحها وأهدافها، شخصاً، نظاماً، دولة، حزباً، طبقة، جماعة أي الجهة التي ستجري وفق معاييرها عملية المقارنة المباشرة والمضمرة، هنا يجري توظيف مفاهيم مثل: الحرية، حقوق الإنسان، الديمقراطية وغيرها. ولكن وفق شروط وتعريف ومعايير ومضامين الجهات التي تطلقها، ما يعني أن أي إزاحة أو خروج عن تلك المحددات يبيح المواجهة والصدام.
بعدئذ تنطلق ديناميات الفعل من خلال توصيف الآخر المختلف أو المتمرد أو الثائر على تلك المفاهيم بأنه غير ديمقراطي، معادي لحقوق الإنسان، ديكتاتور، وفي النهاية هو مجرّد إرهابي.
أخطر ما في هذا التوظيف، عملية التحايل والتمويه وخلط الظواهر، كأن تصف القوى الاستعمارية أو قوى الاحتلال، كما في الحالة الفلسطينية، المقاومة من أجل التحرر والاستقلال إرهاباً، حيث يجري تمرير هذا الخلط عبر ديناميتين، الأولى تقديم الذات على أنها الممثل لقيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، كأن تضع «إسرائيل» نفسها كجزء من السياق الأوروبي «المتحضر والديمقراطي والأخلاقي»، والثانية، شيطنة المقاومة وتقديمها كفعل وسلوك إجرامي نقيض.
هنا تغادر اللغة منطق العقلانية ووعي الظواهر، فينفلت المفهوم ويصبح قوة فاعلة من أجل تشويه المقاومة ونزع شرعيتها وإنسانيتها ومضامينها الأخلاقية، إنها تصبح عنفاً، ثم إرهاباً، ثم إجراماً وقتلاً، ما يعني شرعية قتل من يمارسها وتدميره، وأوضح تجسيد لهذه العملية هي المقولة المخيفة «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، التي تحولت إلى تشريع وقاعدة قانونية لشنّ «إسرائيل» الحروب الوحشية على الشعب الفلسطيني، وفرض الحصار عليه وممارسة الاغتيال والاعتقال وهدم البيوت ومصادرة الأراضي ونفيه أيضاً.
وربما تجري العملية بصورة معاكسة، كأن توصف جماعات إرهابية وقاتلة بأنها ثائرة، وأكبر مثال على هذه الحالة ما يجري في سورية، حيث تجري عملية تعمية لغوية على تلك الجماعات بهدف تقديمها كجماعات لها مشروع شرعي، مقابل شيطنة نقيضها، يحدث كل هذا بصورة منسقة في وسائل الإعلام والخطاب السياسي والاجتماعي، فمن جهة تتم عملية إخفاء وتهميش ممارستها الإرهابية أو نسبها لنقيضها، ومن جهة أخرى يتم تظهير إنسانيتها أو تصنيعها لغوياً، بحيث تهيمن منظومة مفاهيمية ولغوية بأن تلك الجماعات هي حركات معارضة لها أهداف اجتماعية وسياسية عادلة في مواجهة دولة قمعية وقهرية شمولية تقتل شعبها لمجرد القتل.
أما في السياق السياسي، فيتمظهر عنف اللغة في المفاهيم والتوصيفات السلبية والدونية التي تطلق على على جماعة بشرية أو شعب ما.