يسقط الشعب ويحيا الظلم والفساد: الأردنيون بلا دموع
د. لبيب قمحاوي
يعاني الأردنيون من شكوك كثيرة حول واقعهم ومستقبلهم أساسها عدم الثقة في مصداقية الحكومة والإجراءات والتدابير التي تتخذها لمعالجة الوضع المالي والاقتصادي السيّئ والمتفاقم للدولة الأردنية.
الجرأة في الفساد مع شحّ الموارد هو ما يميّز الحالة الأردنية ويجعل الكثيرين يتساءلون عن الأسباب الكامنة وراء استكانة الأردنيين واستسلامهم للأمر الواقع، بالرغم من الآثار المدمّرة لذلك الفساد على الوضع الاقتصادي وبالتالي الاجتماعي والحياتي والنفسي للشعب الأردني.
والجرأة في الفساد لا تكمن في عملية السرقة فحسب، ولكن في تسخير إمكانات الدولة وقوة القانون والإعلام المُوَجَّه من أجل خلق موارد جديدة للحكومة لتمكينها من الاستمرار في إمداد الفساد الكبير بالأموال اللازمة لإشباع شهيته لسرقة المال العام. وبحديث آخر، فإنّ الشعب الأردني يعمل الآن ويكافح ويُقَاسي من أجل تمويل الفساد الكبير، وليس من أجل التنمية، أو سداد المديونية الوطنية. وهكذا لم تكتَفِ الحكومات الأردنية المتعاقبة بالتغاضي عن الفساد الكبير وتجاهل وجوده، بل عملت على أن يصبح الأردن سَبَّاقاً في ابتكار النظريات والوسائل والإجراءات اللازمة لتمويل الفساد حتى وإنْ كان مُكْرَهاً على فعل ذلك تحت ضغط الفاسدين الكبار الحريصين على منع أيّ وسيلة لمراقبة فسادهم أو وضع حدّ له. وهكذا أصبح الأردن رائداً في فنون تمويل الفساد وحمايته وتعزيز موارده وشلّ قدرة مؤسسات الدولة على وضع حدّ له.
معادلة عجيبة فاقت في وقاحتها حالات فساد كبير قد تكون مماثلة في بعض الأقطار العربية الأخرى الغنية وبأرقام قد تكون أضخم، إلا أنّ موارد تلك الأقطار تفوق تلك التي يملكها الأردن مما يَقي شعوبهم من عواقب ذلك الفساد. ومع ذلك لم تصل الوقاحة بأيّ من تلك الدول أنّ تقوم ببيع ثروتها الوطنية لشخص آخر أو آخرين تحت عنوان كبير فضفاض مثل الخصخصة. فالفوسفات مثلاً، يُعادل في أهميته بالنسبة للأردن أهمية النفط بالنسبة للسعودية أو الكويت أو الإمارات، ولكن هل قامت أيّ من تلك الدول ببيع ثروتها الوطنية لفرد ما أو لجهات خارجية مثلما فَعَل الأردن بفوسفاته وبأبخس الأسعار؟؟
إنّ معالجة الفساد المرافق لقضية بيع شركة الفوسفات وما تمخض عنها من فساد آخر كبير من خلال التلاعب بالأسعار وكُلَفِ النقل للفوسفات، تعطي مثالاً صارخاً على تلكّؤ الحكومات الأردنية المتعاقبة في طلب ترحيل المُدانين قضائياً في ذلك الفساد إلى الأردن واسترجاع مئات الملايين من الأموال العامة المنهوبة، وكأنّ الحكومات الأردنية بذلك لا تريد تطبيق حكم قضائي أردني أو تحصيل تلك الأموال! إنّ إضعاف دور هيئة مكافحة الفساد في الأردن يجيء منسجماً مع التوجه الحكومي في عدم الجدية في ملاحقة الفساد الكبير والاكتفاء ببعض القرارات الشكلية والسطحية، أو في ملاحقة الرشوة والفساد الصغيرين كبديل عن ملاحقة الفساد الكبير وبشكل يسمح للحكومة الادّعاء بأنها تحارب الفساد.
لقد أثر استفحال الفساد الكبير ونجاحه في أن يكون فوق القانون على المجتمع الأردني الذي أخذ يعاني من الآثار السلبية لذلك الفساد وسطوته على نواحي الحياة المختلفة وعلى منظومة القيم الاجتماعية للشعب الأردني.
يعاني الأردن الآن من حالات متزايدة من حوادث الانتحار والقتل والسرقة والرشوة والاعتداء على الغير والحرق العَمَدْ وتعاطي المخدرات، وبشكل غير مسبوق. ولكن ما الذي جعل الشعب الأردني المسالم أكثر ميلاً إلى العنف وإلى مخالفة منظومة القيم التي آمن بها؟
لقد أدّى تفاقم الفساد والدمار الاقتصادي المرافق له إلى تغييرات رئيسة وسلبية في المفاهيم الاجتماعية السائدة في المجتمع الأردني. فقد انتقل الفساد والرشوة من كونهما قيمة اجتماعية سلبية تسبّب الخِزِي والعار لكلّ من تثبت عليه تهمة القيام بها، لتصبح الآن ظاهرة مقبولة إنْ لم تكن مدعاة للمباهاة والفخار بين الفاسدين. كما انتقلت «الحياة» من قيمة تحظى بالقدسية الدينية والاحترام إلى عبء ثقيل على حاملها نظراً لعدم قدرة الفرد الأردني المتزايدة على تلبية مطالب الحياة أو على التصدي للفساد الكبير وقطع دابره، مما ساهم في تشجيع النزعة نحو الانتحار. لقد أصبح الانتحار الفردي أو الأُسَري الجماعي والمرفوض دينياً واجتماعياً خبراً شبه يومي على وسائل الأعلام الأردنية، وانتقل شعور الناس بالصدمة من عملية الانتحار، إلى التعامل معها، لكثرتها وتكرارها مؤخراً، كأيّ خبر عادي آخر. ولكن، لماذا نجح الأردنيون في خيار الانتحار وفشلوا في منع الأسباب المؤدّية له؟
الفساد في الأردن فاق كلّ حدود وأصبح يشكل العذر الرئيسي للعديد من الدول المانحة للمساعدات لوقف مساعداتها أو دفعها مباشرة للمشاريع المعنية خوفاً من سرقتها من قبل الفساد الكبير. وفي حالات أخرى قَايَضَتْ بعض الدول غضّ النظر عن الفساد والاستمرار في تقديم مساعداتها مقابل حصولها على تنازلات معينة. وهنا يكمن الخطر من أنّ الثمن الذي قد يطلبه الآخرون لإغماض أعينهم عن الفساد المستشري في الأردن قد يكون ثمناً سياسياً يتطلب من النظام الأردني الموافقة على سياسات أو مخططات سياسية أو اقتصادية قد لا تكون بالضرورة منسجمة مع المصلحة الوطنية، أو قد يُضْعِفْ من قـُدْرِة الحكم في الأردن على رفض إملاءات خارجية مقابل السكوت على قضايا الفساد، وهنا مكمن الخطر. إذ عندما يصبح الفساد المالي مدخلاً للفساد الاقتصادي وأيضاً الفساد السياسي تصبح الدولة في مهبّ الريح، ويغدو ما ابتدأ كفسادٍ محدودٍ ومحلي أمراً كبيراً يفوق في آثاره وأبعاده حدود النطاق المحلي الأردني.
السؤال الأساسي في ذهن كلّ أردني يتمحور حول ماهية الجهة التي يمكن للمواطن اللجوء إليها إذا ما تعسّفت مؤسسات حكومية أو عامة أو خَدَمِيَّة مثل شركة الكهرباء أو سلطة المياة في إساءة استعمال صلاحياتها أو في ممارسة جبروتها على المواطن العادي البسيط؟ كيف يمكن تمكين المواطن الأردني من حماية حقوقه أمام توحش الدولة ومؤسساتها سواء في فرض الضرائب أو زيادة الأسعار أو ممارسة سياسة الجباية بأبشع صورها، وبما يُبعد ذلك المواطن عن خيار الانتحار أو الغضب المجنون؟
إنّ غياب الضمانات القانونية للمواطن الأردني البسيط والمغلوب على أمره دائماً في مواجهة جبروت دولة ومؤسسات وشركات تتمتع جميعها بقوة قانون تمّ التلاعب به لخدمة تلك القوى، وفي ظل مجلس نواب مسلوب الإرادة، قد تكون السبب وراء شعور المواطن الأردني بالقهر خصوصاً في ظلّ قضاء ضعيف مهلهل تمّ التعدي عليه من قبل السلطة التنفيذية ابتداءً من عهد حكومة زيد الرفاعي عام 1988 وبشكل تراكمي، رافقه تغلغل نفوذ الأجهزة الأمنية بين صفوف أعضائِهِ، مما أدّى إلى فقدان المواطن ثقته بقدرة القضاء على حمايته من جبروت الفساد الكبير. كما أنّ غياب الشفافية والمعلومة الصحيحة قد فتح الباب على مصراعيه أمام الشكوك والشائعات إلى الحدّ الذي دفع البعض إلى الكتابة بأنّ مجموع ما سَرَقَهُ الفساد الكبير في الأردن يتجاوز مبلغ 600 مليار دينار وهو مبلغ هائل في كلّ المقاييس ولا يمكن أن يكون صحيحاً. ولكن لماذا يفعل البعض ذلك؟ إنّ غياب الشفافية والمعلومة الصحيحة من جهة، وهدف رفع المصداقية عن الأرقام الحقيقية المرافقة للمطالب الشعبية المتزايدة بمكافحة وملاحقة الفساد الكبير من جهة أخرى، قد يكونا السببين الحقيقيين وراء المبالغة الكبيرة في الأرقام والمعلومات التي يتداولها البعض بشكل قد يكون مقصوداً أو بتخطيط مسبق يهدف إلى بلبلة الأجواء المرافقة للمطالب الشعبية بمكافحة الفساد.
إنّ المديونية الوطنية للأردن قد تعطي مؤشراً على حجم الفساد الكبير. فبِاختصار، إنّ ما تتمّ سرقته من جهة، يتمّ التعويض عنه من جهة أخرى من خلال الاستدانة، إذ لا يوجد إنفاق تنموي أو إنفاق على البنية التحتية في الأردن على مدى العقد الماضي يبرّر مثل هذه الطفرة الكبيرة في حجم المديونية الوطنية، خصوصاً أنّ سياسة الجباية وما رافقها من تعتيم على بعض الإجراءات مثل التسعير الشهري للمشتقات النفطية والزيادة المستمرة غير المعلنة غالباً في أسعار الكهرباء والمياه والضرائب المباشرة وغير المباشرة، من المفروض أن تكون قد عززت دخل الدولة بشكل كبير يبعدها عن خيار المديونية.
كثيراً ما يتساءل الآخرون عن الأسباب وراء نجاح الأردنيين في كبح جماح غضبهم ومعاناتهم عوضاً عن اللجوء إلى وسائل التعبير الاحتجاجية الرافضة وربما العنيفة والمُطَالِبَةِ بوضع حدّ فعلي لتلك المعاناة والأسباب المؤدّية لها. لماذا فشل هذا الشعب الطيب الكريم في التعبير المباشر عن غضبه ورفضه للدخول في دوامة العنف المرافقة لها؟ وكيف نجح في ابتلاع غضبه ومعاناته والمرارة التي يشعر بها وشظف العيش الذي يعانيه ويقبل بما قد لا تقبل به شعوب أخرى؟
يخشى الأردنيون عواقب الانفلات الأمني عليهم وعلى عائلاتهم والآثار المتلاحقة الناجمة عن ذلك على استقرار البلد ومستقبلها. كما يخشون أن يؤدّي كلّ ذلك إلى إضعاف النظام أو انهياره. فالأردني ينظر إلى الأمور من زاوية أسوأ الاحتمالات ويحاول تفادي ما يؤدّي إلى انفجار الأوضاع الأمنية في بلده.
إنّ محاولات أجهزة الإعلام الأردنية الرسمية وشبة الرسمية للتقليل من أهمية ما يعاني منه المواطن وما يشعر به من احباط وغضب لن تؤدي في نهاية الأمر إلى زوال أسباب الظلم والشكوى، بل ربما قد تساهم في تخفيف الشعور بها ولو إلى حين وإعطاء الانطباع الخاطئ بزوالها، مما يجعل ردود الفعل في النهاية أكثر عنفاً وخطورة، خصوصاً عندما تطفو الحقيقة المؤلمة على السطح.
إنّ وجود توافق أردني عام على الحفاظ على النظام لا يعني إعطاء النظام تفويضاً مفتوحاً في فعل ما يريد بغض النظر عما يريده الشعب الأردني أو يرفضه. ورغبة الأردنيين بل وإصرارهم على حماية أمنهم واستقرارهم يجب أن لا يأتي على حساب أمنهم المعيشي واستقرارهم النفسي الذي يشكل الضمانة الأساسية والحقيقية للأردن المستقرّ.
lkamhawi cessco.com.jo