مختصر مفيد الارتباك الأميركيّ ـ التركيّ
يكشف المشهد في شمال سورية، وخصوصاً في منبج، عن أزمة معقّدة بين الشريكين في حلف الناتو واللاعبين الكبيرين من موقع حلف الحرب على سورية، أميركا وتركيا، اللذين تولّيا دور الراعي الدولي والراعي الإقليمي، واللذين لولاهما لما كان لباقي المشاركين في الحرب، بمن فيهم تنظيم «القاعدة» والسعودية أن يجدا طريقاً لخوضها، ومنشأ الارتباك هو غياب استراتيجية خروج موحّدة من حرب فشلت في تحقيق هدفها الرئيس، وهو إسقاط سورية والسيطرة على دولتها وإعادة تشكيلها وفقاً للمصالح المشتركة لقوى الحرب، وهو أمر لو تحقّق لما وقع الارتباك.
الفشل في السيطرة على سورية ترافق مع تنامي وتجذّر قوتين هامّتين ولد دورهما في سياق الحرب كحاجة لخوضها، وزعزعة الدولة المركزية السورية. وهما قوة تنظيم القاعدة بفرعيها الأصلي والمهجّن، النصرة وداعش اللذين تولّت تركيا رعايتهما لتعويض هشاشة قوة جماعات المعارضة العلمانية، وتأمين بديل قادر على استنزاف الجيش السوري وإنهاكه واستنزاف حليفته المقاومة، والسير بخطى السيطرة على أجزاء متدرّجة من الجغرافيا السورية بواسطتهما، وبالمقابل قوة الأكراد التي رعاها الأميركيون لضرب وحدة النسيج الموحّد للسوريين والتبشير بتقسيمها أملاً بإخراج المناطق التي يسيطر عليها الأكراد من تحت سلطة جيشها وتوظيف الأكراد في حرب الاستنزاف المفتوحة على الدولة السورية وجيشها.
في منتصف الطريق بعد الفشل في الإسقاط العسكري للدولة السورية تمكّن الأميركيون والأتراك من إيجاد هدف مشترك لمواصلة الحرب بالأدوات ذاتها، وهو استخدام الاستنزاف تفاوضياً ومن ضمنه خطر التقاسم والتقسيم، بوجه الدولة السورية وكذلك بوجه حليفيها الروسي والإيراني، أملاً ببلوغ تسوية سياسية سقفها الأعلى تنحّي الرئيس السوري وحدّها الأدنى القبول بإعادة تشكيل الدولة السورية على أساس طائفي يضمن التحكم بالجزء الأهم من مؤسساتها عبر صيغة تهمّش دور الرئاسة وتحصرها بتمثيل طائفي مقابل صلاحيات وازنة لرئاسة الحكومة بلون طائفي يوضع تحت السيطرة.
مع انهيار كل هذه الفرص وبقاء خيارين لا ثالث لهما أمام الشريكين الأميركي والتركي، إما المضي في الحرب حتى هزيمة محققة، كانت معركة حلب العيّنة الأوضح عن مسارها، أو البحث عن تسويات ومساومات في التعاون مع الدولة السورية، ضمناً عبر حليفها الروسي بصورة رئيسية، تسويات تسلّم بالفشل في الشق الداخلي للحرب على الدولة السورية ورئيسها، وتحاول نيل بعض المكتسبات الأمنية والسياسية بالمقابل، لا يبدو دور المعارضة التي تجلب إلى جنيف للتفاوض إلا مجرد عنوانها من دون أن يكون مستقبلها موضعاً أساسياً للأميركيين والأتراك إلا بمقدار الحاجة لضمان التسويات.
الواضح أن الأميركي والتركي يحاولان جعل المفاوضة على مستقبل الدور الإيراني في سورية موضوعاً للتسوية، لكن من الواضح أنه ليس أولوية أي منهما، بمقدار ما هو واضح استحالة تحقيقه، لكن الأكيد أن مصير القوتين الصاعدتين من رحم الحرب هو محور الأولويات المتناقضة للشريكين المرتبكين، فالأكراد الأقوياء همّ تركي، وتنظيم القاعدة بجناحيه همّ أميركي، ولا تبدو المقايضة ممكنة، أي أن يرفع الأميركيون غطاءهم عن الأكراد فيرفع الأتراك غطاءهم عن القاعدة بجناحيها، فقضية الأميركيين هي مَن يقضي على القاعدة وقضية الأتراك هي مَن يقضي على القوة الكردية، والأتراك يحتاجون بقايا القاعدة في درع الفرات لحربهم ضد الأكراد والأميركيون يحتاجون الأكراد في حربهم على داعش.
بالمقابل فشلت الرهانات على إصابة الحلف الروسي الإيراني بمرض موازٍ من الارتباك، فالسقف الذي تلاقى عليه الروس والإيرانيون في سورية هو سوري بامتياز، عنوانه الفوز بالحرب، أو مواصلتها حتى تنضج تسوية تستند للاحتكام إلى الانتخابات، وليس فيها مكان لتنحّي الرئيس السوري، ولأن الحليف السوري لا يخشى فشل التفاوض ولا نجاحه، كما هو حال المعارضة التي تخشى الفشل والنجاح في المفاوضات، يبقى الحلف الروسي الإيراني متماسكاً، فإن فشلت المفاوضات عادت الكلمة للميدان ونموذج حلب حاضر وإن نجحت المفاوضات ذهب الاحتكام إلى صناديق الاقتراع وفوز الرئيس السوري مؤكد بينما المعارضة تخشى الاحتكام للميدان، كما تخشى الحتكام للانتخابات، حيث الهزيمة حليفتها في الحالين.
ناصر قنديل
ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.