الحرب الباردة لم تنتهِ بعد!

النمسا ـ طلال مرتضى

من لم يقرأ «باب الليل»، سيعتقد للوهلة الأولى أنني أتهكّم، أو أكتب لمجرد الكتابة ليس إلا! من الطبيعي أنّ النفس البشرية وُلدت لوّامة، وجلّ همّها تعليق مشاكلها وأعذارها على مشاجب واهية لا ظلال لها، كَأنا، حين أقول إنّ الحرب الباردة في لحظة ما أغلقت باب المواجهة وجهاً لوجه، لتفتح «باب الليل» على مصراعيه، وتبدأ حرب ضروس من نوع آخر، وثورات متأجّجة سرعان ما تنفجر، إن لم تحقق الأهداف التي وقفت من أجلها. حربٌ مغايرة تماماً تقوم على سلسلة انهيارات متلاحقة عند أحد قطبيها، وتنتهي كما الحروب العادية بناتج، الكلّ خاسر.

توقفت منبهراً أوّل السطر حين دلف أبو شندي مقهى «لمّة الأحباب»، كبحت جماح ابتسامة فاترة عند مطالع فمي وأنا أتفرّس الرجل الستّينيّ الممشوق كعكازة خيزران طرّية، قد تمّ حشوها داخل بدلة سفاري كاحتة، لونها أقرب إلى الزيتي.

شاءت المصادفة أن تكون طاولة الفلسطينيين في المقهى عامرة قبل وصوله. جال متفرّساً في الوجوه على مضض. وعلى رغم احتكاك عدد من العجيزات ـ المدكوكات في بناطيل الجينز ـ وعبورهن، إلا أنه لم يكترث البتة، ولم يدغدغ إحداهن كغيره حين يمرّر كفه على إحدى تلك العجيزات المكتنزة، أو يدسّ أصابعه عند مكمن الوجع. فقط تسمّر لبرهة ونظر متفحّصاً حضور الملكة صاحبة المقهى بعينين ذابلتين، من دون أن تهتمّ. عرفت الرجل حين قهقهت «مومس» غيداء لدى دخوله قائلة: «أبو شندي… كعك بعجوة… وصل المناضل الكبير».

كان عليّ حينئذٍ اقتناص الفرصة، ودعوته للجلوس إلى طاولتي ريثما يغادر أحد الثوّار المرابطين طاولة القادة الفلسطينين، ليتسنّى له التمركز في مكانه الحقيقي كقائد، بالتأكيد طاولة الفلسطينين الثوار هي بمثابة غرفة العمليات التي تحرّك المدافع وترسم عليها الخطط، قبل أن تنطلق إلى حيّز التنفيذ في الميدان الأوسع «المقهى». كانت استجابة الرجل سريعة حين لبّى دعوتي مجبراً، لسببين: الأوّل عدم معرفته بي، والآخر حين عرف أنني أعمل في الصحافة. لكن أساريره فُرجت حين أخبرته اهتمامي بالشأن الثقافي لا السياسي، وأنني أنوي كتابة مرويّة تتطرّق إلى الحبّ والحرب. هذا ما جعله يتمتم بينه وبين روحه، لتخرج هذه التمتمة مع ضحكة ناعسة بقوله: «والله أنتم الرواة قهقهة تعملون من الحبّة قبّة».

كان ذلك مع الرشفة الأولى من فنجان قهوته السادة، بعد أن لفّ سيجارة تبغ بأصابعه الرفيعة والتي تشبه أصابع عازف بيانو متمرّس، وأغرقها بشكل طولي بشيء من ريقه كمن يحاول إثارة الرغبة لدى حبيبته.

ـ ما أخبار البلاد؟ قلت.

تراجع عن إشعال سيجارته، في لحظة ما شعرت أن مسّاً كهربائياً قد صعقه، عندما ركن سيجارته في المكان الخطأ، أي في فنجان القهوة لا في المنفضة، متعوّذاً من الشيطان الرجيم، ليجيب بعدئذٍ على سؤالي وهو يضع بين إبهامه وخنصره ورقة شام بيضاء ليعاود من جديد حشوها بالتبغ.

ـ لا يزالون يرسلون المعونة… ولو أنها لا تكفي. قال.

ـ ما كان على الثورة أن تتوقف يا أبو شندي.

ظلّ يلاحق غيمة مكتنزة من دخان سيجارته حتى تماهت تماماً مع خيوط الضوء المتسلّلة من وراء الزجاج، وحين فقد الأمل من اقتفائها، ردّ عليّ بنبرة الواثق القائد:

ـ الثورة لم تتوقف مطلقاً. لكن معطياتها على الأرض تغيرت تماماً، حرب اليوم يا صديقي خاطفة. نعم أؤكد لك أنها خاطفة وسريعة أشبه بوجبة همبرغر تأكلها وقوفاً أو بأيّ الحالات، لكن حراكها قائم تماماً. اُنظر يا صديقي بمن هم حولك في المقهى، وراقب عن كثب كيف تتحوّل الحرب الباردة إلى حرب الندّ بالندّ. هل ترى كيف داهمت المناضلات المجاهدات طاولات المقهى، الحرب ستقوم لا محالة. حرب مكشوفة تماماً. هذا الجينز اللعين يبيّن للعدو المغير كلّ مكامن خصمه من دون مواربة، التجربة هي الدليل الأهمّ في المعارك، تلك العجيزات المحشوة قسراً في الجينز لا تستكين الا حين تدكها مدافع العدو وتحيلها يباباً، بالطبع العملية مدروسة بدقة عالية يا صديقي. فتلك المدافع الرابضة لن تطلق طلقة واحدة، إلا حين تتعرّض لهجوم مباغت بالرمّانات التي تندلق على حين غرّة بعد انفلات زر ما أو تنقطع الحمالة الفاخرة لتصير المواجهة حتمية. أنصحك ألا تضيّع وقتك بقراءة كتب الحروب السالفات، اُكتب روايتك من قلب الحدث، كن قائداً رحيماً عطوفاً وجسوراً، ولا توفر طلقة واحدة، لليوم الأسود كما يقولون، لا تكن كَأبي شندي، هذا الميدان أمامك مفتوح، فقط سدّد واَقصف. لا مشكلة حين تدمّر هدفاً صغيراً، جملة الأهداف التي ترميها هنا تسجّل لك كما سجلّ الخالدين.

ـ قلتَ لي لا تكن مثل أبي شندي… لم أفهم؟

ضحك وهو يستدير نحو الكونتوار الذي تتربّع وراءه الملكة صاحبة المقهى، مشيراً إليها بيده كقنّاص يسدّد نحو ضحيته… مردفاً بالقول:

ـ هل ترى تلك المرأة؟ هي كبيرة في السنّ لكنها لم تزل تحافظ على عجيزتها بعناية، وشيء من حضورها.

ليس سرّاً ما أقوله لك، فالكلّ هنا يعرفون القصة، والتي حدثت قبل أكثر من عشرين سنة، وقت وصولنا إلى تونس، كنت حينذاك يا صديقي…

ـ ماذا كنتَ يا أبا شندي… يجب أن تسلّم يا أبا شندي… الاعتراف بالخسارة من صفات المقاتل الشجاع، لقد خسرت يا أبا شندي. قالت الملكة.

كان وصول الملكة صاحب المقهى، حسبما يطلقون عليها مثل قذيفة طائشة لا أحد يعرف مصدرها، ما جعلنا نغيّر الخندق كي نتلافى شظاياه، على أمل القيام بغارة مرتدّة لدكّ معاقل العدوّ، مجبراً تركت لأبي شندي تحديد الوقت والمكان!

الصورة رسم «المقهى في الليل» للرسام العالمي ڤان غوخ .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى