من منّا لا يتبع القطيع؟ قراءة سريعة في سيكولوجيا وثقافة القطيع

نصار إبراهيم

من منا لا يتبع القطيع… سواء كان تنظيماً أو جماعة أو طائفة أو عشيرة أو قبيلة أو مجموعة أو حتى نادٍ رياضي…!؟

«أنا ابن جلا وطلّاعُ الثنايا…

متى أضعُ العِمامةَ تعرفوني

يا أهل العراق! إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، والله لكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى. يا أهل النفاق والشقاق ومساوئ الأخلاق، وأيم الله لألحونكم لحو العود… ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل… يا أهل العراق! إنما هو انتضاء هذا السيف، ثم لا يغمد في الشتاء والصيف، حتى يذل الله لأمير المؤمنين صعبكم، ويقيم له أودكم، وصغركم … اقرأ كتاب أمير المؤمنين يا غلام: فقال القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين إلى من بالعراق من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله، فسكتوا فقال الحجاج من فوق المنبر: «أسكت يا غلام»، فسكت، فقال:» يا أهل الشقاق، ويا أهل النفاق ومساوئ الأخلاق. يسلم عليكم أمير المؤمنين فلا تردون السلام؟ اقرأ كتاب أمير المؤمنين يا غلام»، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم… فلما بلغ إلى موضع السلام صاحوا وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله وبركاته»…

أعتذر عن هذا الاستشهاد الطويل، ولكن أرجو أن يبقى السؤال أعلاه، وأيضاً حكاية الحجاج مع أهل الكوفة حاضرين في الذهن حتى نهاية المقال.

يتساءل الكثيرون كيف للتنظيمات الإرهابية والتكفيرية، مثل الوهابية وداعش والنصرة وغيرها، أن تنجح في تجنيد كلّ هذه الآلاف من الشباب وإقناعهم بممارسة كلّ هذا التدمير والقتل والوحشية؟

كما يتساءل الكثيرون أيضاً: كيف للمواطن العربي الذي يواجه كلّ هذا القهر والقمع والفقر والنهب والتهميش والتبعية أن يبقى صامتا!؟

الحرية والمسؤولية واستخدام التفكير العقلي مفاهيم مغرية يتغزل بها الكثيرون، ولكن هل فعلاً يمارس الأفراد في واقع الحياة اليومي هذه المفاهيم بجرأة وفاعلية؟

هذا السؤال ليس ترفاً بل تستدعيه الحالة العامة في المجتمعات العربية الغارقة في تناقضاتها الداخلية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والسلوكية.

حالة وصلت إلى ذروة التدمير أو الانتحار الذاتي، ورغم ذلك نلاحظ حالة من العجز الجماعي والفردي وغياب الجرأة في المبادرة… فقط تأفّف ونقد وألم مكبوت، وبعد ذلك مواصلة السير في سياقات القطيع…

ليس أدلّ على هذه الحالة من ظاهرة التطرف والإرهاب الفكري والديني والاجتماعي التي ينساق الكثيرون معها دون أيّ حدّ أدنى من التفكير العلمي، وأيضاً ظواهر الرضوخ والصمت والقبول في مواجهة الظلم والفقر والبطالة والتطاول على الحقوق السياسية والاجتماعية والمدنية والاقتصادية للفرد والشعب، هذا عدا عن تحويل الأوطان إلى ما يشبه المزارع الخاصة لبعض الأفراد والطبقات المهيمنة، وصولاً إلى رهن الأوطان بشعوبها وثرواتها واستقلالها وحريتها لقوى النهب الخارجية سواء كانت دولاً أو شركات أو مؤسسات دولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

كثيراً ما نسمع أو نقرأ أو نطلق بأنفسنا في هذه الأيام مفهوم القطيع لوصف تصرف أو سلوك فرد أو جماعة ما، بل وأحياناً نطلق وصف القطيع على المجتمع بكامله، لكن وبالرغم من الاستخدام الواسع لمفاهيم القطيع وثقافة القطيع وسلوك القطيع في وصف بعض الظواهر الاجتماعية، إلا أنه في كثير من الأحيان لا يدرك الفرد حتى وهو يطلق هذه المفاهيم بالمعنى السلبي والنقدي بأنه هو بذاته جزء من القطيع الذي يتهكم عليه وينتقده…

فمفهوم القطيع وسلوك القطيع ليست مجرد مفاهيم لغوية وصفية اعتباطية، إنها نتاج دراسات وتجارب علمية استهدفت وعي تصرف الفرد والجماعة ضمن ظروف وشروط محدّدة، وأيضاً تأثير عمليات الإخضاع والسيطرة العميقة التي يتمّ استخدامها من قبل السلطة لضبط حركة الفرد والجماعة وقمع أيّ رغبة أو إرادة للتغيير عنده..

ظاهرة القطيع عملية مركبة ومعقدة وتستخدم فيها كلّ وسائل السيطرة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والثقافية والثواب والعقاب بحيث يتمّ تنميط السلوك الجمعي وتوجيهه..

عمليات وديناميات السيطرة هذه يجري تحويلها إلى وعي وسلوك جمعي يحتلّ اللاشعور بحيث تبدو وكأنها فعل واع…

لقد أطلق عالم النفس البولندي سولومون آش على ميل الفرد النفسي والسلوكي في اتباع رأي الأغلبية ظاهرة ضغط النظائر Peer Pressure.

فثقافة القطيع وسلوك القطيع يتأسّسان حين يتمّ إخضاع الفرد أو الجماعة لظروف وشروط بحيث يشكل أيّ خروج على رأي أو سلوك الأغلبية إحساساً بالشذوذ والنبذ من قبل الجماعة، ويحدث هذا وفقاً لتفسيرات علماء النفس لسببين، الأول: التقدير العام بأنّ الجميع يقومون بالفعل الصحيح، والثاني الخوف من مواجهة السائد والمُجمَع عليه حتى لو كان الفرد يدرك عقلياً أنه خطأ.

ومن أشهر التجارب التي توضح هذه الفكرة تجربة القرود الخمسة والمو، وملخص التجربة:

وضعت مجموعة من العلماء 5 قرود في قفص واحد، وفي وسط القفص وضعوا سلّماً، وفي أعلى السلم وضعوا بعض الموز. ثم قام العلماء في كلّ مرة يصعد فيها أحد القرود لأخذ الموز برش باقي القرود بالماء البارد. بعد فترة بسيطة من تكرار التجربة لاحظ العلماء أنّ أيّ قرد كان يصعد لأخذ الموز، يقوم الباقون بمنعه وضربه وذلك حتى لا يتمّ رشهم بالماء البارد.

بعد مدة من الوقت لم يعد أيّ قرد يجرؤ على صعود السلم لأخذ الموز على الرغم من كلّ الإغراءات وذلك خوفاً من ضربه من قبل زملائه.

بعدها قرّر العلماء تطوير التجربة وذلك بتبديل أحد القرود الخمسة وإحضار جديد مكانه. وكان أول شيء يقوم به القرد الجديد هو صعود السلم ليأخذ الموز، ولكن وعلى الفور كانت القرود الأربعة القديمة تقوم بضربه وإجباره على النزول. بعد عدة مرات من الضرب فهم القرد الجديد بأنّ عليه ألا يصعد السلّم مع أنه لا يدري ما السبب.

بعد فترة طوّر العلماء التجربة فاستبدلوا قرداً قديماً آخر بقرد جديد، وحدث معه ما حدث مع القرد البديل الأول، ولكن لاحظ العلماء أنّ القرد البديل الأول قد شارك زملاءه بضرب القرد الجديد وهو لا يدري لماذا يضرب!

وهكذا استمرت التجربة حتى تمّ تبديل جميع القرود الخمسة الأوائل بقرود جديدة، حتى صار في القفص خمسة قرود لم يتعرّض أيّ قرد منها بالرش بالماء البارد من قبل… ومع ذلك كانوا يضربون أيّ قرد تسوّل له نفسه صعود السلم بدون أن يعرفوا ما السبب! انتهت قصة القرود الخمسة .

من هنا تبدأ قصة الجماعة البشرية المسكونة بثقافة القطيع… حيث توضح لنا هذه التجربة الاستعداد لتبنّي واتباع أفعال غير إنسانية ومواقف تتناقض في الجوهر مع مصلحة الفرد والجماعة، بحيث يتمّ تبني ما تمّ تقديمه باعتباره الصحّ الوحيد، بحيث يُنظر لأيّ خروج عليه باعتباره خروجاً عن الموقف والتفكير السوي…

هنا بالضبط تتوضح خطورة الفكر الديني المتطرف حيث يتمّ توسل الدين لنشر الفكرة واعتبار أيّ خروج على النص الذي تقدّمه الجماعة المتطرفة هو خروج على العقيدة، وهنا يتمّ استخدام الترهيب والترويع والتخويف والتكفير والترويع بالعقاب والجحيم من جانب، والإغراء بالجنة والحوريات والسبايا من جانب آخر، وكلّ ذلك يتوّج بالردع الوحشي ضدّ من يفكر بالخروج على القطيع الذي تمّ تأسسه بدأب.. أيّ بالضبط ثقافة القرود الخمسة.

وهذا ما تقوم به أيضاً، ولكن بصورة أخرى أكثر ذكاء وتمويهاً ومكراً، أجهزة الدولة القمعية بهدف إقناع الجمهور بالسكوت والانضباط.. بل وتنجح في إقناع الجماعة بضرورة أن تشارك بذاتها وبصورة فاعلة في منع غيرها من المبادرة والتمرّد على الواقع المهين الراهن أو للمطالبة بحقوقها وحريتها الطبيعية.. وهكذا تصبح وبدون وعي قوة شدّ عكسي تماماً حتى ضدّ مصالحها ذاتها…

في هذا السياق تقوم منظومة السيطرة بترهيب وترويع المجتمع من خلال إغلاق الخيارات أمام أيّ بديل آخر فلا يبقى متاحاً سوى ما تقدّمه السلطة المسيطرة من خيارات سياسية واقتصادية وثقافية، وغير ذلك هو الضياع والمزيد من الألم… بمعنى ليس لديكم أفضل من هذا فاصمتوا بل وعليكم منع من يشكك بذلك… هنا تلعب وسائل الإعلام والتعليم دور الأداة لتكريس هذا الوعي وتحويله إلى مسلّمة بحيث يعتبر ايّ محاولة أو تفكير بالخروج عليها مساساً بمصلحة الجماعة والمجتمع… أما الحالات التي لا ترضخ لهذه العملية فيتمّ التعامل معها وبصورة مباشرة و«مناسبة» من الأجهزة المعنية.

هذا ما يحصل الآن على أكثر من مستوى وصعيد في السياسة والاقتصاد والقضايا الاجتماعية والثقافية وغيرها…

لهذا فإنّ مواجهة ثقافة القطيع وسلوك القطيع المدمّرة على كلّ المستويات هي عملية شاملة تستدعي وعي جدل معادلة الحرية والمسؤولية والاستقلالية بالمعنى العلمي العميق وعلى المستويين الفردي والجمعي، الشخصي والوطني.

هنا… أعود إلى حكاية الحجاج… وذلك بهدف وضعها في السياق العام… فما قام به الحجاج بالضبط هو في حقيقة الأمر سكب الماء البارد على رؤوس أهل الكوفة… وبعدها ستنطلق دينامية التجربة بكامل طاقتها.

هل وصلت الفكرة…!؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى