28 أيلول… جدلية الألم والأمل

معن بشّور

تاريخ أمتنا المعاصر مليء بالذكريات، بعضها مضيء وبعضها مظلم، بعضها مشرق وبعضها قاتم، بعضها محفّز وبعضها محبط، ولكن هناك يوم اجتمعت فيه أحداث جسام بعضها طغى عليها الألم، وبعضها حرك فينا الأمل.

هذا اليوم هو 28 أيلول….

ففي أوائل ستينات القرن الماضي 28 أيلول 1961 طعننا أعداء الأمة في واحدة من أعظم إنجازات عصرنا، وهي الوحدة المصرية السورية، فكان الانفصال ارتداداً لم يضرب الدولة الأمل، أو الدولة الطوق، في قلبها فحسب، بل جعل من «التجزئة حقيقة وحقاً: فغرف من ظلامه وظلاميته أعداء الأمة ذرائع لتصوير أن «التجزئة وكل إفرازاتها» هي الأمر الطبيعي وأن الانفصالية والكيانية والقطرية هي مستقبل أمة في عالم يتجه كله إلى التكتلات الكبرى وإلى المنظومات التي تتجاوز الحدود، بل تتجاوز الحروب التاريخية والصدامات الدموية والتباينات الثقافية والحضارية.

وفي أوائل سبعينات القرن الماضي 28 أيلول 1970 غيّب الموت قائداً عظيماً للأمة، وهو في عز عطائه، بل في عز استعداده لشن حرب استعادة الكرامة للأمة، واستعادة لتوازنها مع عدوها الجاثم فوق أرضها، فأحست الأمة أن «فراغاً كبيراً» قد أصابها، يفوق الحزن الذي لفّها بل يزيد منه، وأن هذا الفراغ سيبدأ، في مصر كبيرة أقطار الأمة ليمتد إلى كل أرجائها ، بل إلى كل قوى الحرية في العالم كله.

في أوائل ثمانينات القرن الماضي أيضاً 28 أيلول 1982 وبعد حصار وحرب امتدت 88 يوماً ونيّف، وبعد احتلال صهيوني للعاصمة العربية الأولى بعد القدس، اندحر العدو من بيروت مهزوماً ومصدوماً، وجنوده ينادون بمكبرات الصوت «يا أهالي بيروت: لا تطلقوا النار علينا فنحن راحلون عن مدينتكم» ولتبدأ يومها مقاومة وطنية وقومية وإسلامية تؤسس لعصر الانتصارات، بل تتحول إلى مصدر قلق رئيسي لعدو بات مدركاً أن «المقاومة وجدت لتبقى… وستبقى» كما قال يوماً جمال عبد الناصر، وإنها وإن حوصرت في قطر ستخرج أكثر قوة في قطر آخر، وإن سقطت فيها راية سترتفع رايات أخرى، وإن ساندت فيها قوات استعمارية حليفها الصهيوني، فإن رقعة المقاومة ستتسع لتواجه قوى أخرى أكثر قوة وعدّة وعتاداً.

وفي السنة الأولى من القرن الحالي 28 أيلول 2000 وعلى خلفية انتصار مؤزر للمقاومة في لبنان بدحر الاحتلال من أرض الجنوب، قبل ثلاثة أشهر في 25 أيار 2000 فقط، اندلعت في قلب القدس وأقصاها المبارك، انتفاضة فلسطينية ثانية هزت كيان العدو من داخله، وأجبرته على الاندحار من غزة أولاً حيث عاد وواجه فشلاً في حروب عدوانية ثلاث، تماماً كما واجه الهزيمة في عدوانه على لبنان في صيف 2006، وتبيّن أن عدونا قد دخل فعلاً عصر هزائمه، وأن المقاومة كسلاح وخيار وثقافة قد بدأت عهد انتصاراتها والتي يحاولون محاصرتها والإجهاز عليها بشتى الوسائل والأساليب ، وفي تلك الانتفاضة، وفي أيامها الأولى، استشهد الطفل محمد الدرّة على يد المجرمين الصهاينة وهو يحتمي بجدار كتب عليه شعار خالد لجمال عبد الناصر «ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة».

في هذه المناسبات جميعاً، تداخل الألم بالأمل، وفلسطين بالوحدة، وتراث جمال عبد الناصر بفعل المقاومة، وبرزت في حياة الأمة حقائق لا يمكن لأحد تجاهلها أو نسيانها أو القفز فوقها أو إطفاء نورها، وهي أننا أمة واحدة، وأننا أصحاب قضية واحدة، وأننا أهل مقاومة واحدة مهما تعدّدت الأسماء والرايات والعناوين.

في هذه المناسبات التي تستحق كل واحدة منها وقفة تأمل عميق لاستخلاص الدروس والعبر السليمة منها، ولاستحضار معانيها ودلالاتها في حاضرنا ونحو مستقبلنا، تستوقفني عبرة واحدة ينبغي أن نستوعب جميعاً معانيها ودلالاتها.

لقد رحل جمال عبد الناصر في 28 أيلول 1970، بعد أن أنهكته وهو ابن الثانية والخمسين من عمره، قمة عربية استثنائية دعا إليها لوقف حرب دموية تفجرت في الأردن بين المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني، وكان في ذهنه وقف تلك الحرب واحتمالات تطورها إلى احتراب أهلي، وحماية المقاومة الفلسطينية، على رغم انزلاق بعض فصائلها قبل أيام من الحرب في إطلاق حملة عنيفة، لم تخل من الشتائم البذيئة، ضد جمال عبد الناصر على خلفية موافقته على مبادرة روجرز وزير الخارجية الأميركي آنذاك القاضية بوقف إطلاق النار بين الكيان الصهيوني الذي أنهكته حرب الاستنزاف التي بدأتها مصر بقيادة جمال عبد الناصر، وبين مصر التي كانت تحتاج إلى هدنة قصيرة تسمح لها ببناء ما عُرف يومها «بحائط الصواريخ» المضادة للطائرات من أجل تنفيذ عملية عبور قناة السويس وتحرير سيناء.

لقد رحل جمال عبد الناصر وهو يسعى إلى تجاوز حملات وإساءات تعرّض لها، هو ومصر، من أجل حماية من أخطأ بحقه وقسى عليه، ورحل عبد الناصر، وهو يحمل في قلبه غصة بطل أساء البعض فهم مناورة أقدم عليها من أجل التحضير لحرب، كانت ستغيّر وجه المنطقة، لو حصلت في زمن عبد الناصر من أجل تصفية حساب «عقائدي» قديم أو لوراثة زعامة كبرى بناها عبد الناصر بمواقف شجاعة، والتزام قومي صادق، وبعلاقة استثنائية مع الناس…

علم القيادة، كما علمنا جمال عبد الناصر، هو أحياناً خطوة إلى الوراء من أجل خطوتين إلى الأمام، وفن القيادة هو أن لا يحمل القلب الكبير حقداً بسبب صغائر لا تخلو منها العلاقات بين البشر…

فهل ندرك أن حياتنا تقوم على جدلية الألم والأمل، فلا يطغى ألمنا مهما كان كبيراً على فسحة الأمل مهما بدت صغيرة، ولا تنسينا اندفاعاتنا بقوة الأمل معاناتنا الممزوجة بالألم، بل لا تطغى جراحاتنا، مهما كانت موجعة، على عقولنا وأحلامنا ولو كانت بعيدة المنال.

يوم واحد بمناسبات عدة، ولكن بمعانٍ كثيرة.

المنسّق العام لتجمّع اللجان والروابط الشعبية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى