مناقشة رواية «فراشة التوت» للونا قصير في جامعة «العزم» ـ طرابلس
احتضنت «جامعة العزم» في طرابلس، ندوةً خُصّصت لمناقشة رواية «فراشة التوت» لكاتبتها لونا قصير، وذلك وسط حضور جمعٍ من الأصدقاء والأهل والمهتمين بالشأن الثقافي.
وقد ألقى الكاتب الياس عشّي مداخلةً في الندوة، هذا نصّها:
مرّت سنتان ونصف السنة على توقيع لونا قصير روايتيها «القميص الزهريّ» و«بلاد القبلات»، وها نحن نجتمع في أمسية ثالثة، حول رواية ثالثة عنوانها «فراشة التوت».
وكعادتي، ما زلت مصرّاً، وأنا ألعب دور الناقد، على ترك التفاصيل، وعلى التمسك بخطّين أساسين متوازيين: أوّلهما الإيجاز لأن «البلاغة في الإيجاز» كما علّمنا الجاحظ، وثانيهما البعد عن الهوى، والمشاعر، وردود الفعل، متمسكين بوصيّة الجاحظ الذي حذّرنا في مقدّمة كتاب «الحيوان» من الوقوع فيها عندما قال: «إذا كان الكره يعمينا عن المحاسن، فإن الحبّ يعمينا عن المساوئ».
رواية «فراشة التوت» مسرح افتراضي، قد يكون قرية، أو مدينةً، وقد يكون في أيّ مكان من جغرافية هذا العالم المتشابك حتّى الهلع. ورغم تشابكه نكتشف أنّ بين كلّ إنسان وآخر، وبين كلّ دولة وأخرى، وبين كلّ دين وآخر، وبين كلّ طائفة وأخرى، وبين كلّ شعب وآخر، بين هؤلاء كلّهم خنادق حرب، وخنادق جوع، وممرّات لا تنتهي للعبور إلى الموت أو إلى التشرّد والغربة.
«ليزا»، كما تصوّرتها، هي فراشة التوت، وهي البطلة الأساس في الرواية لأنها قادرة على تجاوز هذه الخنادق والممرّات المفخّخة، وقادرة أن تقول: لا، فيما الآخرون «كومپارس» يتحرّكون بعفوية لإثبات حضورهم على هامش العمل الروائي. فمنذ الصفحات الأولى تمسك لونا بيدك، وتعرّفك إلى «ليزا» العنيدة، و«ليزا» الحالمة، و«ليزا» الشقيّة، و«ليزا» الباحثة عن الحبّ رغم عقودها الخمسة التي عاشتها، و«ليزا» التي، كما تقول لونا، لم تشعر يوماً باختلاف الانتماء الديني بين والديها، بل كانت منفتحة على جميع الأديان. بل كثيراً ما أبدت إعجابها بجبران خليل جبران الذي قال على لسان «نبيّه»: «وإذا أردتم آن تعرفوا الله فلا تشغلوا أنفسكم بحلّ الألغاز، بل انظروا في ما حولكم تروه يداعب أطفالكم، وانظروا إلى الفضاء تبصروه يسير بين السحاب ويبسط ذراعيه مع البرق، ويتنزّل في المطر، سترون بسمته في الزهر، وحين يعلو يخفق الشجر بخفق يديه…».
أهمّ ما في العمل الروائي، كما اتفق النقاد، ثلاثة: الحبكة والعقدة والحل، ولولاها لما صمد قارئ أمام رواية قد تبلغ المئات من الصفحات، لذلك سأترك لكم متعة أن تقرأوا الرواية، وأن تتعرّفوا إلى «غريتا» و«إيڤي» و«غلوريا» و«جلال» و«كريم» و«هنري» وغيرهم من الأسماء الذين مرّوا عبر صفحاتها، وتركوا بصماتهم عليها.
لنتّفق، اُتركوا لي أن أتحدث عن وعاء الرواية، أترك لكم أن تكتشفوا مضمونها.
حافظت لونا في «فراشة التوت» على الإيقاع ـ الصورة الذي فرضته في «القميص الزهريّ» و«بلاد القبلات»، وهذا أمر طبيعيّ لأن المسافة بين الإصدارات الثلاثة كانت أقل من ثلاث سنوات، وكنت أتمنّى أن تطول أكثر. ففي الحديث عن رحيل أخيها «آدم» ذي السنوات الخمس تكتب: «رحل في ربيع لم يشهد إشراقة شمس ولا طلوع قمر، كالوردة التي ما استطاعت براعمها بسط أوراقها، ولم تسق من قطرات الندى لتتفتّح وتزهر، وذبلت على أرض لم تجفّ بعد من دماء بريئة بعد أن جفّ الضمير».
وفي مكان آخر تأخذ تجربتها الوصفية منحى شعرياً، ويكفي أن تعيد ترتيبها لتنسبها إلى القصيدة النثرية:
تغلغلي يا نسمة في الأفق البعيد،
عند الشروق وبعد المغيب،
فما ذنب الرياح من عواصف القدر
وبوح عاشقة تنتظر قدوم الربيع.
ومن الواضح أن الكاتبة ترتاح في أحضان الطبيعة، فترخي العنان لخيالها، وتلقي القبض على ألوانها وتراتيلها وفراشاتها، ثم تقفل عليها في كتاب.
وفي الرواية كثير من الصور يمكن التوقّف عندها، والاستراحة في ظلالها، بعد كلّ العثرات التي مرت بها «ليزا» بدءاً من موت والدها وأخيها، ومروراً بتجربتها القاسية مع هنري. وبهذا الأسلوب تقترب لونا من المدرسة الرومنسية التي كان روّادها يمجّدون الألم، ويرتمون في أحضان الطبيعة.
وما لفتني في الرواية ألفاظ تأتيك بمنتهى العفوية، والتبسيط، والبعد عن لغة المعاجم، واقترابها من يوميات الناس، وأنا أوافق على هذا النمط طالما أن العمل روائيّ.
لم أرَ أبداً امرأة تضاهي لونا في الجرأة والتصميم والمبادرة… اكتشفت نفسها، وعرفتها، عرفت أن مكانها الصحيح وراء الكلمة، فسعت إليها، وفهمتها، وروّضتها حتى دانت لها. لم تلتفت إلى البعض ممّن حاولوا النيل من مسيرتها، فذكّرتني بما قاله الروائي تشيكوف في النقّاد: «إن النقّاد أشبه بالذباب الذي يحوم حول الحصان وهو يجرّ المحراث، فبينما هو ناهض بعمله، سائر في سبيله، إذا بذبابة تقع على أذنه وتطنّ، ثم تنتقل إلى خاصرته وتدغدغها، فترتفع أجلاده القويّة، وتقشعرّ عضلاته المشدودة، ويهتزّ رأسه وذيله يميناً وشمالاً. لماذا تطنّ الذبابة في أذنه؟ لأنها تريد أن تقول للحصان: أنا البعوضة الصغيرة أعيش كما تعيش، بل إني أستطيع أن أعوقك عن عملك. نعم… فلقد مضت خمسٌ وعشرون سنة وأنا أقرأ ما يوجّه إلى قصصي من النقد، ولكنني لا أذكر إشارة واحدة ذات قيمة، أو كلمة قيّمة أرشدتني وأفادتني».
مات الروائي الكبير تشيكوف عام 1904، وما زال في صدارة الروائيين العالميين، نذكره ونتذكّره مع العظام، فيما لم نسمع بِاسم واحد من أسماء نقّاده.