الدولة التي تتلذّذ بصفع مواطنيها

العلامة الشيخ عفيف النابلسي

من أصعب الأشياء على المرء أن يتكيّف مع واقع الفساد والظلم في هذا البلد، فلا يعود يبالي أشرٌ أُريد به أم أريد به رشدٌ. ذلك أنّ حجم الأزمات وتفاقمها واستفحالها من السعة إلى درجةٍ تدفع الإنسان إلى اليأس والشعور بالعجز والنأي بالنفس والهروب من الواقع إلى العزلة التامة. لكن ذلك ليس حلاً ولا يمكن أن يرفع من المسؤولية الملقاة على كاهل كل مواطن مهما بلغت التحديات والمظالم والتجاوزات غلواً وإسرافاً، ولا يمكن أن يصلح واقعاً وحالاً، بل إنّ العزوف السلبي عن الإصلاح والمواجهة من شأنّه أن يرفع كلفة الحياة حاضراً ومستقبلاً.

فهل يقف المواطن إزاء هذا التردّي السياسي والاقتصادي والاجتماعي مكتوف الأيدي، مستسلماً لقدره، متكيفاً مع تبعاته، أم أنّ المبادرة إلى العمل تحت أقسى الظروف هي حتمية وجوده وإنسانيته؟ فما لم يتحرّك المواطن لاسترداد حقوقه واسترجاع كرامته المهدورة فإنّ سياسة الاستغلال ستدوم طويلاً. وأمام مجموعة من القضايا التي يجب أن لا نغمض عيوننا عن رؤيتها نقول التالي:

في قانون الانتخاب، فإنّه لا مفرّ من الذهاب إلى مبدأ النسبيّة قاعدة للإصلاح السياسي العام. وكل الصيغ المطروحة هي صيغ تيئيسيّة تحاول أن تهدم ما تبقى من الاجتماع اللبناني المدني لتحوله إلى كتل طائفية. هذه التقسيمات الهندسية المتداولة يمكن أن تصلح لمن يريد تشييد عمارة من حجارة، لا بناء عمارة من أرواح ونفوس. وبدلاً من أن تخرج القوى «الإصلاحية» بأطروحات ترتق ما انفتق، فإذا بها تمزّق ما هو ممزّق بالأصل. الحقيقة، أنّ «لبنان الكبير» صغير لا تناسبه القياسات المعروضة للبيع، ومع ذلك ليس هناك مَن يشتري. فلماذا يريد البعض إلباسه رداء سرعان ما سيمزّقه جسمه. هذا الإصرار على الأزياء الهجينة ستزيده بشاعة، بينما المطلوب أنّ نخيط له أجمل الثياب وأليقها. فهل يضغط اللبنانيون جميعاً لرفض القوانين الطائفية الرديئة والتفكير بعقلية جديدة تتيح إنتاج زي جديد يليق بلبنان الجديد! وفي هذا السياق يجب أن نرفع شبهة في وجدان بعض اللبنانيين حول الدين والدولة. إذ من قال إنّ الدينيين يريدون نظاماً طائفياً، حيث ينتخب المسلمُ المسلمَ، والمسيحيُ المسيحيَ. مَن قال ذلك؟ المتديّن الحقيقي يريد نظاماً عادلاً يقوم على المساواة بين البشر. المساواة التي تجعل اللبنانيين كلهم مواطنين. فمِن أين جاء لنا البعض بهذه البدع التقسيمية الطائفية بذريعة إعادة الاعتبار أو استرداد حقوق ضائعة؟

وفي السلسلة، فإنّ إقرارها بهذه الطريقة المبتسرة المشوهة لا يكرس التمييز بين الفئات فحسب، بل يصنع ظلماً ويضيف سخطاً ويؤجج النفوس ويضع البلد كله أمام كارثة اجتماعية جديدة. وكأنّ الدولة في هذه السلسلة تتلذذ بالاعتداء على مواطنيها، وتسعد عندما تكيل لهم الضربات والصفعات، وتنتشي عندما تصنفهم وتقسمهم وتمزقهم، وتمتلئ ضحكاً عندما تكبتهم وتُذلهم وتهينهم.

قد تتظاهر الدولة على حرص مواطنيها وأمنهم وسلامهم، ولكن ما تفعله هو العكس تماماً. وأتخيّل كما لو أنّها تسحب جثة المواطنين كلهم وتسحلها حتى تمضي بها إلى الحفرة.

إنْ استمرت الحال على ما هي عليه فلا ندري مع هذا الجنون في المنطقة أن يبقى حجر على حجر وقلب على قلب. فلنتحرك قبل فوات الأوان!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى