صباحات

صباحات

ستة صباحات لستة أيام والسابع لسيّد لا ينام

تفتّحت وردة هذا الصباح على عطر فريد، و تمايلت أغصانها لعشق لم يولد بعد، فهي لا تفوح عطراً إلا لتبوح سرّاً، وتفتح كل برعم جديد عشق جديد، فقلت يا ورد ما الخبر، حتى عبق الأحمر النقي فيك واختنق، أهو عشق سرّه في خطر، أم هو سرّك أنت أيها الصباح، قرّرت أن تصير عاشقاً لا أن تكتفي بتدوين سيرة العشاق. هل جربت الانتظار تحت المطر؟ وهل تذوقت لوعة المشتاق؟ هل دمعت عينك لسماع وقع أقدام الحبيب؟ أو توشّح خداك كالتفاح، وخجل من التنصت عليك فغاب القمر؟ قال الصباح عاشق أنا ولا أخشى في العشق أن أُلام، وأريده جهراً أمام الأنام، وأن أبقى لعشقه لو أضجرتكم بما تبقى من الأيام، أن أبقى صاحياً لا أنام، فيضيع ليلكم بنهاركم لأنني الصباح، ومعشوقي ليس ليلاً ولا شمساً ولا قمراً، كي تفرحوا بوصالنا، فقد ضاعت انتظامات أيامكم إن عشقت بين البشر، وصار معشوقي اسمه عشق الصباح، فله تزيّن وتعطر وتبارك السلاح، وله أعلن عشقي وأنا الصباح، فلا تغاروا من جبينه وعيونه وتبسّم الثغر وإشهار الكلام، وإعلان الحرب والسلام، فالعشق خلق على يديه، ولابتسامة شفتيه وهو يقول نعم، فكيف إن قال لا وابتسم؟ صباح الخير يا سيد… صباحكم خير بإشراقة السيد، فالشمس اليوم تعتذر، والصباح تجمد في ساعة الوقت… وما زال.

صباحاتنا هي نحن، فالصباح المشمس قد نراه مشرقاً مضيئاً أو نقول صباح جاف وحارق. والصباح الغائم قد نراه دفء المطر وعشق رائحة التراب. أو نصفه بالقول صباح عصف وصقيع. وصباح المطر والثلوج قد يكون موسم الخير المتدفق الآتي من نبع الصباح. أو يصير القدر القاسي المنطلق مع طلوع الصباح، لذلك نمنح الصباح بعضاً من دواخلنا، فنمدح الصباح أو نهجوه، ونحب الصباح أو نراه ثقيل الظل. هكذا ببساطة تتسلل رائحة البن كحبل نعس موصول لا يريد أن يستيقظ، أو كهبوب رياح الخماسين لتنهرنا تذكيراً بموعد العمل. فالبن هو نفسه والصباح نفسه وفيروز لم تتغير، بل نحن من نتغير. أما أنا فلديّ من الدفء لصباحاتي بأضوائكم الخضراء و قلوبكم المحبة الطيبة، ولديّ من الحب، ولديّ من إشراقات التفاؤل والأمل والثقة بالغد الأجمل، ما يكفي لصباحات مئة سنة قادمة. فمرة أرى الغيم كنزة صوف صنعتها أمّ بخيوط الضوء خيطاً خيطاً. ومرة أراه صهوة جواد لعاشقين، ومرة غلالة مطر توشك أن تهطل في حضني دفعة واحدة، ككوم حنطة مذهب يعلن موسم القطاف، وكثيرا ما أراه تردد الانتقاء بين الأبيض والأسود، وتلعثم الاعتراف بالتوزع في الخيارات الكبرى بين مجدين وربين وقلبين، فأجد من الغيم نفسه عذراً للمتردّدين والمتلعثمين، لأن الصبح قريب… يرونه بعيداً ونراه قريباً… أليس الصبح بقريب؟

الدخول في الصباح وقد توضع وارتاح يشعرك بالغربة، فقد فاتك قطار انتظار الضوء الاول والقبلة الاولى، وأنت كعاشق زوجة صديق العمر، خجول من أعين الحضور ترمقك من تحت النظارات السميكة لتسألك أين كنت. يكفي الإحساس بالحشود بدلاً من وحشة الوحدة لتعرف قيمة الاستئثار والتفرد والتميز، فأنت هنا تسعى لتجد لنفسك مقعداً في محطة قطار ملأى بالركاب، فقد طلع الصباح على غيرك قبلك واستأثر به وحيداً يداعب شعيرات ضوئه، يرفع خصلتها الأولى عن طرف عينه، وأنت من أنت، ها أنت مجرد ضوء أخضر، والأضواء الخضراء تشع من كلّ اتجاه، وضجيج المنادين يطغى على صوت فيروز لما تلتقي الصباح في ظل شجرة أو خلف صخرة ويدك على الزناد فتلقي عليه السلام ويرد عليك الكلام. وحتى الصباحات التي تلفى عليك الآن ولم تفرك عينيك بعد لتراها بوضوح، فتصلك مشوشة رمادية فتحسّ بعضها يقول صباح الخير أيها الخائن لقد تأخرت. والشعور بالخيانة والوفاء ليس في الحب وحده، فقد ندمن على علاقات عشق من نوع آخر كملء سيارتنا بالوقود من محطة تعبئة بعينها، فنغامر كثيراً بالسير إليها ووقودنا يكاد ينفد كي لا يتملكنا سواد الشعور بكآبة الخيانة. وكم نتهرب من نداءات داخلنا لقصّ شعرنا في فندق يغرينا صالون الحلاقة فيه، فنقول وماذا نقول لحلاقنا، أو قد نخترع حكاية نوبة وجع شديد نرويها لطبيب أسناننا ونحن نتوقع سؤاله الحانق آه مشتغل فيهن، لنرد لا والله بس اضطريت نوبة لا تحتمل في بلد آخر، كل ذلك لأن الشعور بالخيانة أشدّ ألماً وقسوة من خسارة أشياء نحبها أو نحتاجها، فكيف الشعور بخيانة شركاء الصباح لا بل خيانة الصباح نفسه، الذي ربما وصل وانتظر ولم يكشف عن وجهه لغيرك وهو يمنحك وقتاً أضافياً لتكون أوّل الواصلين… ماذا عساهم يشعرون من يخونون أوطانهم كل صباح ومعها يخونون أمهاتهم وأبناءهم وآباءهم ولا يشعرون بالسواد ولا بالكآبة. صباح الخير للذين يشعرون بالكآىة عندما يبدّلون صحيفة الصباح أو يستعجلون بائع كعك أو موزّع حليب، ويشعرون بالخيانة والعذاب، لأنهم وحدهم يستحقون الصباح، ووحدهم يؤتمنون على الصباح والوطن ويستحقون الصباح والوطن… صباح الخير.

الصباح عاشق يتدلل والناس أحبة عطاشى، أو نيام متواطئون، لكن المنتظر على جمر، والصبح الذي كان يسابق الريح صار يتهادى، كحبيب يحسب أوقاته كلها ليقول لك إن أعطيتك دقيقة فيكون هذا ما أملك، بل هذا ما ادخرته لأجلك، وأنت تخجل أن تقيم مثله الحساب، كما تخشى الغضب في نهاية العتاب، كما الصباح يطل ويشلح عليك رداء الضوء ويمشي ويقول ها قد جئت ووجدتك منشغلاً فمضيت، وأنت منشغل بأن تصنع له الأعذار، لماذا لا يطيق الانتظار، ولماذا على المنتظر قبل بزوغ الضوء طويلاً أن يتقبل ألّا قيمة لانتظاراته لأنها واجب من يحب، صباحات تطلّ وتمضي وبصمة بعض الصباحات عالقة في حدقة العين كلما تفتحت للقاء الضوء في موعد غرامي طال انتظاره، والتمعت بينهما القبلة الأولى بقشعريرة البراءة وحبّ الاكتشاف، كم نشتاق أن تبقى تلك اللحظة رغم التكرار أولى… صباح الخير.

صباح العتمة تنسلّ خيوطها الأخيرة كانسلال الشعرة من معجن اليدين الطاهرتين لفلاحةٍ في الجبل، ليبان خيط الضوء خجولاً ويصير بقعة تتّسع حتى تمحو وحش الظلام. والصباح لانتظارات هذه اللحظة أمام حوض ياسمين يتفتح ببطء شرود ذهن عاشقٍ بعيداً عن شاشةٍ صمّاء، كما انتظار فنجان قهوة تأخّر بسبب انقطاع الكهرباء أو صوت فيروز تعثّر لحشرجة في برامج الغناء. هي لحظة الانتظار بين سماع صافرة سقوط صاروخ والتماع شظاياه، أو بين صرخة مخاض حامل واختلاطها بصرخة المولود الجديد. هي لحظة الانتظار التي تشبه بطولها وقفةً في طابور، أو انتظاراً لن يأتي لسماع الاعتذار… صباحكم خير وصباحكم شعلة النهار.

للصباح يطلّ كما الفاكهة لم تنضج بعد، والقطاف المبكر للصباح لا يقدّم ولا يؤخّر بمواعيد النضوج، حتى يصير الصباح انتظاراً للصباح من بعض ليل، ويصير ككل انتظار وعد منذور للتحقق، فعلى ذمّة الصباح تاهت الظنون، وعلى همة الصباح تفتحت العيون، وعلى رغم التهيؤ للصباح وامتشاق الصبر سلاح، لا تنضج مواعيده كالثمار التي قطفت قبل الأوان، ولا يحيى كوردة في فنجان، ولا مذاق لطعمه قبل اكتمال حلّة الألوان. فالصبح سيد، والصبح مقام والصبح كلام، والصبح بعض انتقام. من أراد لقياه فلينتظر، ومن فاته القطار فلينم. هوالصبح يا سيّد كطلة جبينك، وزرقة الغمام، وهديل الحمام، وحنوّ السلام. هو الصبح لك وحدك متى قمت قام.

إلى نور صباحاتكم أسعى فأسهر الليل حتى أكون أول من يلاقيه، وما إن أغفو تعباً حتى أنهض قبل انحلال آخر ضفائر شعر الليل الاسود، فأكون وأنا أفرك عيون التوق للنوم من جديد. من يفتح الرمش على ومضة شيب الشعرة الأولى في ذيل الفرس السوداء، لتحجز مقعدها أبيض مهيباً كالتماعة ضوء في عتمة قاسية، وها أنا أسعى… وكما يظن الناس من هيبة السواد أن أصلب الأجسام هو ما بعد انتصاف الليل، يظن الاحساس أنّ عزف الوتر لعمق الصدى زحف جيوش ووقع سنابك الخيل، وإن نامت الاجسام، فللقلب عين لا تنام، فأكتب بسواد الليل على بياض صفحة نهاراتكم، وأنتظر حتى يطلع الضوء فترونها، لتكون أوّل صباح الخير في صباحاتكم، ومشعاً لوصول الدفء لبرد قلوب وحيدة، ومؤنس وحشة الحروف في اللغة العنيدة، أو نقطة الضوء الأولى في ليال بعيدة، وبقية الامل الذي تعودون إليه من كل رحلة على وهم القصيدة، وكل القلوب مهما توهّمت تمرّ دورة الوحدة والوحشة والعناد والبعد والوهم، فتحتاج في تناوب دورة الحياة عليها دفئاً وأنساً وضوءاً وأملاً قبل أن تبدأ الدورة الجديدة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى