المرأة… حاضرةً ومستعادة في حبر طلال مرتضى!

سيّد محمد الياسري

تعرّي

تعرّي من كلّ شيءٍ

مهلاً

مهلاً حبيبتي

تعرّي

من ظنونك أوّلاً

لملمي ملابسك الآيلة

لسقوط الجمر!

هل يستطيع أن يرى المرأة من دون تعرٍّ؟ ربما يبحث عن ذاكرة لم يجدها وربما أراد أن يغرس الذاكرة كي يتذكّر الوجه ويرسمه ويتحسّسه! حين كان الحنين يشدّه إلى وجه مفقود من الذاكرة، حاول رسمه وإعادة ترتيبة من دون جدوى، إلا أنّ الوجه الأخير الذي تثبت به بكلّ طاقاته الحسّية لم يفترق عنه. لذا كان في متخيّل الشاعر رمزان، الاول ظاهر ـ المرأة الحضور ـ والثاني قد تسربلت خيوط ذاكرته من حياكته وعجزت أن تجعله ثوباً ليستر ـ المرأة الغياب ـ الجسد الثاني:

حين مضينا بعيداً في الصلاة

أعلن النهد قيام القصيدة

لثماً حتى آخر

شهقة

مادت بجيدها نحوي

حبل من زبد

وعقد من عرق

تكوّر ماساً بين

الفرقدين!

الرؤيا واضحة عندما يتذكر جسده الثاني الذي افتقده للّمس وللواقع ليبحث عنه في الهواء وكأنه دون كيشوت وهو يحارب الهواء مع مخيّلته. لقد رأى العرق عقداً ماسياً وتحسّسه في أخيلته، بدأ بجملة ظرفية ليعلن ان الذاكرة موجودة، محاولاً وضع المفهوم العام للتسلسل الزمنيّ وكذلك ليوضح أن ما فات من واقع بظرف ما، ما زال ملازماً له في هذا الزمن أو ينطلق معه حتى في أنفاسه. واختار جملة فعلية حين تحرّكت هي من محض إرادتها، لأنّ الفعلية متغيرة وليس ملازمة مثل الاسمية التي تعرف بالثبوت.

فقد بدأ فيها يصفها بالرؤية دليلاً أنه يرى العرق ويستطيع أن يستنشقه أو يراه براقاً كاللؤلؤ أو الماس الذي يكسر ضوءه في عينيه. عكسها هي، هي مالت إليه وهي قابلة إلى التسريب في نهاية الامر:

تحسّسي رأسك الآن

كيف ستوارين الفضيحة؟

هل تسمعين

دبيب الخطيئة فيكِ؟

كنت أراقب عن كثب

انتفاخ

بطانة ثوبك

النبيذي الهدل

أجزم أنك الآن حامل

منّي

سفاحاً

بملايين الأفكار

ـ وأعرف أن أفكاركم

المتعطنة

ذهبت بعيداً

يا معشر القرّاء

هي انعكاس مراياكم ـ

تعالي نمارس سوياً

لذّة الحروف

تعرّي

تعرّي من كل شيء.

هنا عاد طلال مرتضى ليبدأ بالمتغيّر، الجملة الفعلية تحسّسي . إذ سترى في النهاية منحنى القصيدة سيتغيّر وأنه سيذهب معك باللذة ويقودك إلى المتعة معه، يرسم الخيال ليشاركك في صورة الجسد وعتابه ولذّته وقسوته وجماله، كلّها صور يضعها في مخيلة القارئ، لأنها تركزت في مخيلته منذ تطلاعاته الأولى بصور مركّبة وأخرى يصعب تركيبها من الحقيقة، فصاغها من جديد هل ترى دبيب وكأنك معه تشعر بتلك الحركة تسري على ذاكرتك في قشعريرة نحو ذاكرة جسد المرأة، أنها الخطيئة التي يعلنها في الخيال، لأنها لم تتحقق بالحقيقة، ولا يمكن تحقيقها البتّة، لأن الصورتين إحداهما حضن أمّ نساه ولم يتحقّق منه شيء من دفء الحضن، والثاني جسد الحبيبة رآه وتمعّن به ولصقت صورته في ذاكرته، لكن لم يلمسه فقد ذهب عنه وعندما التقاه بعد عشرين سنة غيّبه الموت القسري عنه، وكأن أزيز المدافع كان صورة أخرى بشعة، فجاء بكلمة التعرّي وهي للإنسانية، للحياة، لأن المرأة هي الديمومة للحياة، بل هي خلق الحياة وحين تُغتال اغتليت الحياة، والقاتل هو من توالد منها، فلا بدّ أن تتعرّى لإظهار حقيقة الحياة التي أصبحت بشعة، بذلك التوالد المرّ والمؤلم. فكانت أفكارهم لا تدرك ما يقول وتذهب الأفكار بعيدة حين لامس جسد وأصبحت خطيئة الافكار… تنبلج من جديد من عالم الجمال والوجود إلى عالم البشاعة والفناء:

قالت:

هبني نبيذاً صادح

العطش

لا ينطفئ

غنِّ على ليلاي

وتعالَ

نقيم الليل رقصاً

أسكب كأس مدامك

انزياحاً

من بوابة التوت

ارتشافاً

حتى التقاء

المسيل

نادى المنادي:

الله يغفر توبة العاشق

وحين بان الخيط الأبيض

من الصحوة

رأيت قميصاً من نبيذ

يصلّي، يرتّل، يرقص

ينزف طقس القصيدة.

كثيرون من استخدموا النبيذ والخمر ولم يشربوه كما وصفه الشاعر محمد سعيد الحبوبي، أما الأموات من ذاكرة الصورة فحالة جديدة في الشعر العربي، حين يصنع من معشوقته الراحلة مع الزمان اللامتناهي والتي تعيش في ربوع الذاكرة المغنية بذاته، لم نجده ـ على حدّ علمي ـ أن شاعراً تكلّمت حبيبته معه وتناديه أن يسترسل بكأس النبيذ وهي من أخيلة الماضي، وربما جاءت من مخزونه الآخروي بطفولته الأولى، بأن الله سيعطي نهراً من الخمر، فقد تقوده هذه المفردة إلى أن ذاكرته تلتصق بأخيلة الجنّة التي عاشها صغيراً وتربى عليها وأنه يلتقي هناك معها، وهذا دليل أنّ الشاعر ما زال في ذاكرة الألم حين يتلذّذ بأطياف يصطنعها وهي في زمن اليقظة، وينفصل عن العوالم الأخرى ليظهر الجسد ويشاهده وهو متّكئ على الأريكة أو مستلقٍ على نبات الحديقة، تتسلّل إلى جسده البرودة فينتشي في بيان الخيط الأبيض الذي يرتبط بمفردة النبيذ نهر الخمر أو العبادات ما زالت ملتصقة بذهنيته أو صوغ العبارة التي لا تنفك من ذاكرته فصاغ مفردة الخيطين الأبيض والأسود ليعرف أنّ زمن الرحيل عاد، وانتهى الحلم الجميل ليركن إلى الألم ووجع الروح فيكتب القصيدة.

الشاعر طلال مرتضى في سطور:

ولد في ريف حلب عام 1973، حيث توفّيت أمه وهو ابن ثلاث سنوات، عاش طفولة مرّة حدّ السقم لا يعرف معنىً لكلمة «حنان».

علّمه والده أنّ الله قهّار وشديد وجبّار، وحين دخل المدرسة وجد أن لله أسماء غير التي عرفها، الرحمن، الرحيم، الودود…

وكذلك حين تعرّف في مراهقته إلى أوّل فتاة، تلمّس أن النساء لا تتشابه، كما كان يعتقد أنّهن كلهن يشبهن زوجة أبيه. ولعل اكتشافه الوجه الآخر المغاير دفعه إلى رحلة «الهروب» في المرة الأولى إلى دمشق حيث يعيش أخوه، وفي المرة الثانية حين أعاده الأخ إلى الأكبر إلى منزل الأسرة، فكانت المفارقة وسافر عوضاً عن ذلك إلى بيروت.

في منتصف 1989 دخل بيروت، وكانت منهكة من الحرب الأهلية، وكلّ بناها التحتية مدمّرة تماماً. فكان كالمستجير من الرمضاءِ بالنار. ومرّة أخرى اكتشف أنّ للحظّ اسماً آخر غير السيّئ. وذلك حين أوصله هذا الحظّ إلى العمل مع سيدة عجوز وزوجها المثقّف الماركسي، فبدأت رحلة التزوّد بالمعرفة من مكتبة العائلة. وهنا تعرّف طلال إلى تولستوي وتشيخوف وكثيرين غيرهما.

باكورة نثاره كانت مشاركة له في برنامج إذاعيّ من دمشق «نادي المراسلة» فكانت البذرة الأولى لانطلاقة جديدة أوسع وهي الكتابة في جريدة «الكفاح العربي» وذلك طبعاً، بدعم من هذه السيدة التي بها عرف صورة الأمّ.

طلال، الشاعر الطاعن في «الهروب» بحثاً عن الوجه الآخر للحقيقة، قاده الحبّ والحرب الهجرة والتهجير والغربة والاغتراب إلى النمسا. وهناك سكن ظِلّه.

وظلّ طلال مرتضى يرسم صورة أمّه من خياله، لكن صورة حبيبته هي من واقعه، بقصائد قد تشبع غرائز عقله، لكن من دون جدوى.

له: مجموعة شعرية 2009 «ربيع القوافي». قراءات نقدية 2017 «قراءات تُغوي الريح». وستصدر له في القادم من الأيام روايتان في أدب السيرة.

كاتب وأكاديمي عراقي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى