بخصوص الفساد والإفساد!
نصار إبراهيم
مع أنّ الفساد قاتل محترف ومنظم… إلا أنه يطلق النار على الجميع بطريقة عشوائية… والغريب أنه دائماً و»بالصدفة» يصيب الوطن والمواطن في الرأس.
نسمع ونقرأ كثيراً في هذه الأيام عن الفساد، كما نسمع ونشاهد الكثير من الألم والاحتجاج والنقد والغضب تجاه مظاهر الفساد المنتشر في المجتمعات العربية… سواء على مستوى مؤسسات الدولة أو في المؤسسات الاجتماعية والمؤسسات المدنية والخاصة… وصولاً إلى ما يشبه اليأس من إمكانية مواجهة هذه الظاهرة واستئصالها أو على الأقلّ الحدّ منها.
فما هي هذه الظاهرة بالضبط وما الفرق بين مفهوم الفساد.. ومفهوم الإفساد؟
مع أنّ الفساد قد يستفيد منه بعض الأشخاص بصورة فردية أو بعض القوى بصورة معينة، إلا أنّ الفساد مع ذلك ليس مجرد شخص لا أخلاقي.. أو لصّ عابر… إنه في الجوهر بنية ومنظومة ممأسسة وعميقة.. وهو ظاهرة مدمّرة بالمعنى الوطني والقومي حين يصبح أداة للسيطرة والنهب لمصلحة طبقة مهيمنة.
بهذا المعنى فإنّ الفساد لا تقف حدوده عند التطاول على المصلحة العامة، فهناك الفساد المرتبط بمفهوم العمل العام، فليس بالضرورة أن يسرق أو يستفيد الشخص المعني من الفساد… إذ يكفي فقط أنه يبدّد بوعي أو بدونه وقت العمل، أو أن يسيء للناس.. صحيح أنه في هذه الحالة لا يسرق بالمعنى المباشر للسرقة.. غير أنّ تحايله كي لا يقوم بواجبه بطاقة كاملة هو تبديد وهدر للوقت الإنتاجي سواء في مؤسسة حكومية أو خاصة أو اجتماعية…
ومع ذلك ورغم خطورة الفساد إلا أنّ الأكثر خطورة وتدميراً من الفساد هو الإفساد… ذلك لأنّ الفساد يبقى في بعض أبعاده ظاهرة موضوعية، بمعنى أنه نتاج للاختلالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أيّ بصورة ما هو نوع من ردّ الفعل على تلك الاختلالات لتجاوزها من خلال توظيفها بصورة لا أخلاقية للفائدة الشخصية أو الضيقة لجماعة ما…
أما في حالة الإفساد.. فنحن أمام عملية واعية ومقصودة، قد تتمّ بفعل قوى داخلية تستهدف الهيمنة والسيطرة على المجتمع بهدف جني الأرباح واستنزاف المجتمع وثرواته وقطع الطريق عليه للتطوّر والتغيير، كما يمكن أن تجري بفعل قوى خارجية تستهدف تدمير المجتع وتجويفه من داخله بهدف السيطرة عليه وإخضاعه، وفي بعض الحالات يمكن أن تجري عملية الإفساد بالتعاون والتنسيق بين قوى داخلية وقوى خارجية.
في سياق عملية الإفساد الواعية هذه يكون المجتمع في مواجهة مشروع منهجي منظم يعمل على المدى البعيد لتدمير عناصر قوة المجتمع وضرب ركائز وحدته مثل تشويه الوعي والعبث بذاكرته وهزّ ثقته بذاته وبهويّته، تشويه معاييره وقيمه الناظمة… هذا من جانب ومن جانب آخر يتمّ حقنه بالتدريج بقيم نقيضة تقوم على الأنانية والاستلاب وتعزيز سيكولوجية الدونية في مواجهة الآخر ونشر الثقافة الاستهلاكية، وهزّ ثقته بثقافته الوطنية والقومية والحضارية…
في هذا السياق يحتلّ الإفساد الثقافي مكانة مركزية لما يشكله من خطورة مروّعة على الوعي الجمعي والذاكرة الجمعية وضرب ثقافة الاستقلال والكرامة الوطنية والقومية والمقاومة مقابل نشر وتعزيز ثقافة الخضوع والتبعية وتبريرها.
هذا يذكرني بفكرة قرأتها ذات يوم، وهي أنّ أحد أجهزة المخابرات في دولة ما قد نجحت في تجنيد شخصية مهمة في دولة معادية… فأخذ ذلك الشخص يتحسّب ويتساءل ما هي يا ترى المعلومات والمواقع والأسرار العسكرية والأمنية والاقتصادية التي يريدون منه أن يجمع المعلومات عنها…؟ وحين سمع ما يريدون منه بالضبط أصابته الدهشة والصدمة.
قالوا له: في الواقع لا نريد منك شيئاً… لا معلومات ولا أسرار ولا ما يحزنون… بل ولا نريدك حتى أن تتصل بنا… ما نريده منك هو أمر بسيط للغاية ولن يشكل عليك أيّ تهديد بتاتاً… كلّ ما هو مطلوب هو أنه حين يتمّ الإعلان عن وظيفة ما أو حين يشغر منصب ما في الدولة أو في شركة خاصة أو عامة أو مؤسسة ثقافية أو اجتماعية، أن تستخدم نفوذك وعلاقاتك وبشكل طبيعي تماماً لتوظيف شخص غير كفوء وفاسد في الموقع الشاغر أو الوظيفة المعلنة.. هذا كلّ ما نريده منك فقط.
هل وصلت الفكرة!