رسائل سورية صاروخية برسم الحلف السعودي ـ «الإسرائيلي»

د. وفيق ابراهيم

يجنحُ المحلّلون إلى اعتبار الردّ السوري على الغارة «الإسرائيلية» الأخيرة على منطقة تدمر بأنها تجسيد لتغيير حدث في قواعد الاشتباك.

فما هي قواعد الاشتباك؟ أهي أن تقصف «إسرائيل» ولا تردّ سورية.. فالموضوع إذاً على علاقة بموازنات القوى العسكرية وليس نهجاً سياسياً، لأنّ «إسرائيل» كيان مصطنع وعدوّ أساسي لسورية في مختلف الأوقات والاحتمالات.. ودمشق تقرأ جيداً إمكاناتها وظروفها السياسية والتوقيت المناسب. فعندما تستشعر ضعفاً لأسباب داخلية أو خارجية تكظم غيظها وتتحضّر لمراحل لاحقة. هذا ما كان يحدث في الأوقات السابقة التي اتسمت بهيمنة أميركية كاملة على منطقة الشرق الأوسط مع غياب لمصر وضياع المنظمات الفلسطينية واحتلال العراق وانهيار الحدّ الأدنى من التضامن العربي.

فإذا لم تردّ سورية على غارات «إسرائيلية» استهدفتها في السنوات الأربع الأخيرة، فيكفيها فخراً أنها دعمت وآزرت وساندت المقاومة اللبنانية وشاركتها في تحرير جنوب لبنان من العدو «الإسرائيلي» وأربكت الأميركيين في العراق بدعمها كلّ أنواع المقاومين الذين استهدفوهم.. أليست هذه الأمور خرقاً سورياً وطنياً لقواعد الاشتباك؟ أكان على دمشق أن تشنّ حرباً خاسرة سلفاً على «إسرائيل» وذلك لأسباب عسكرية أو أخرى تتعلّق بالتضامن العربي المستجدّ مع «إسرائيل».

الإشكالية إذاً لا تتعلّق بتغيير في قواعد الاشتباك بل بمستجدّات على مستوى التحالفات الدولية والإقليمية والعربية ووصول الصراع العربي ـ «الإسرائيلي» إلى مرحلة تحالف خليجي ـ «إسرائيلي» ضدّ العرب. ما يستدعي بالطبع تغييراً في أسلوب المواجهات.

هناك إذاً أسباب داخلية وعربية وإقليمية ودولية فرضت تغييراً كبيراً في مستوى الردّ على هجمات «إسرائيلية» جوية كانت أم بحرية أو برية.

لقد صدر على ما يبدو توجيه من الرئيس الأسد بعد تنسيق مع حلفائه بالردّ على اعتداءات «إسرائيل»، وسببه أنّ الوضع الداخلي في سورية مال إلى الارتياح بعد الانتصارات المتواصلة التي ينجزها الجيش السوري. سياسياً انكشف الإرهاب أمام السوريين الذين أدركوا أنّ مشروع هؤلاء لا يريد إلا تدمير البلاد فقط لمصلحة «إسرائيل» والخليج.

إضافة إلى أنّ الخبراء يقدّرون وجود نحو 75 في المئة من السوريين الموجودين في بلادهم في مناطق ومدن موالية للدولة.. فبعد تحرير حلب أصبحت المدن الكبرى كلها من الشمال حتى درعا برعاية الجيش والمؤسسات الرسمية. وهذا عامل يريح الدولة المترابطة مع مواطنيها ويفقد المشروع الإرهابي سنداً شعبياً مزعوماً كان يتذرّع به في المراحل السابقة وبدعم إعلامي مزوّر من محطات الخليج والغرب.

والدليل الوافي على هذا الاستنتاج أنّ الإرهاب ينفذ حالياً عمليات انتحارية ضدّ المدنيين السوريين لمعاقبتهم بسبب تخلّيهم عنه.

عربياً، أصيبت معادلة التآمر العربي على سورية بتراجع. فالعراق أعلن استعداده لضرب الإرهاب في سورية بعد تحرير الموصل مبدياً حرصه على تحالف قوي مع دمشق بمستويات متنوّعة وذلك لإحداث صدمة في المنحى العربي التراجعي.

ويعتقد الخبراء أنّ حلفاً سورياً ـ عراقياً جدّياً من شأنه إحداث صدمة نوعية في دول عربية متحالفة حالياً مع الكيان «الإسرائيلي» بمظلة أميركية.

لبنان بدوره، لم يعُد ساحة دعم لقوى الإرهاب في سورية، فهناك رئيس جديد للجمهورية العماد ميشال عون أعلن أكثر من مرة تأييده لسلاح حزب الله، وشنّ أعنف هجمات على الإرهابيين في سورية. وهذا يشير بوضوح إلى أنّ أجهزة الدولة لن تسمح بدعم الإرهابيين من أراضيها، ولا بتشكّل خلايا له على الأراضي اللبنانية. لذلك يمكن اعتبار الحدود اللبنانية مع سورية أرضاً مقفلة في وجه التنظيمات التكفيرية، باستثناء فجوة عرسال وجرودها التي يتعامل معها حزب الله والجيش اللبناني بأساليب قتالية صارمة، ولولا استناد بعض الهيئات الدينية إلى أساليب التهديد بالفتنة السنية ـ الشيعية، لكانت بلدة عرسال محرّرة منه بشكل كامل.

أما لجهة تركيا فالتعاون الروسي ـ السوري أوصل الطموحات التركية إلى حائط مسدود وأوقفها عند بلدة الباب بمواجهة الجيش العربي السوري الذي يشكل سداً يمنعها من مواصلة التقدّم. وهذا ما أدّى إلى تراجع العلاقات التركية مع المنظمات الإرهابية الكبرى مع استمرارها بدعم منظمات تكفيرية تابعة للإخوان المسلمين وأخرى تنتمي إلى أقليات التركمان السورية.

على مستوى الحدود الأردنية، فالظاهر أنّ التحالف الأميركي ـ السعودي يهيئها لتكون بديلاً من الحدود التركية. لا سيما أنّ الأردن لا يختزن طموحات إقليمية كحال تركيا، ويكتفي بتنفيذ الأوامر الأميركية المتواكبة مع أموال تصله من الخليج حتى يقبل ما يريده الأميركي و«الإسرائيلي».

وتستفيد دمشق أيضاً من اتجاه القاهرة إلى تأييدها ورفضها حتى الآن المشاريع السعودية المتآمرة عليها. كما ورد على لسان وزير خارجية مصر سامح شكري الذي دعا إلى التعاون مع الدولة السورية وإعادتها إلى جامعة الدول العربية.

ورفضت القاهرة الطلبات الأميركية ـ السعودية بأن ترسل قوات مصرية تشكل جزءاً من قوات عربية إلى شرق سورية ووسطها. ورفضت مصر العرض واشترطت الموافقة المسبقة من الدولة السورية.. وهي تعرف أنّ هذا الأمر لن يحدث بموافقة دمشق. وانسحاب مصر من التآمر على سورية إلى جانب الجزائر والعراق.. يعني أنّ أكثر من ستين في المئة من العرب هم إلى جانب دمشق مقابل حفنة من المستعربين من مالكي النفط يخدمون الوالي الأميركي.

يتبيّن إذاً أنّ الدولة السورية استفادت من تقلّص الضغط الداخلي العربي الذي كان يُعاديها وأصبح إما مؤيداً لها أو محايداً على الأقلّ.

كما أنّ الوضع الإقليمي مالَ إلى التحسّن مع لجم الاندفاعة التركية المجنونة، وتزخيم إيران أدوارها العسكرية والسياسية والاقتصادية إلى جانب سورية، ما أنتج ارتياح الدولة السورية إلى الوضع الإقليمي أيضاً.

دولياً، يتبيّن يوماً بعد يوم أنّ العودة الروسية ليست مسألة شكلية تتعلق بقواعد على بحر طرطوس أو في منطقة حميميم، بقدر ما ترتبط بإصرار روسي على استعادة مكانة دولية هامة تتيح لها المشاركة في إدارة الأزمات عموماً وإقامة علاقات اقتصادية إيجابية تؤدّي إلى ازدهار روسيا.

دمشق إذاً مرتاحة إلى الدور الروسي بما يؤدّيه من لجم للعنجهية الأميركية من جهة، وقصف الإرهابيين بأحدث أنواع الطائرات من جهة ثانية، ومنع تشكل أحلافٍ تؤدّي إلى زعزعة الدولة السورية من ناحية ثالثة ورعاية موسكو لمفاوضات أستانة رابعاً، ومنعها التصعيد «الإسرائيلي» من ناحية خامسة.

هذه من الأسباب الكبرى التي دفعت بالجيش السوري إلى الردّ النوعي على غارة «إسرائيلية» على مراكزه ومواقع حلفائه في منطقة بعيدة جداً عن حدود الجولان المحتلّ.

ومن الصعب أن لا تُشاور سورية حلفاءها مسبقاً بنيّتها الردّ على الغارات «الإسرائيلية».. لأنّ هذا الأمر قد يؤدّي إلى حرب، لن يستطيع الطرفان الروسي والإيراني الموجودان في سورية أن يتجنّباها.

وتجب إضافة أسباب أخرى مركزية، وهي محاولات أميركية ـ سعودية لتشكيل حلف إسلامي للتعامل العسكري مع النظام السوري بالإَضافة إلى حلف سعودي ـ «إسرائيلي» دخل عملياً في إطار التشغيل. وما الغارة الأخيرة إلا واحدة من فصوله.

لمجمل هذه المواضيع، تتحضّر الدولة السورية مع تحالفاتها العربية والإقليمية والدولية لمجابهة الحلف «الإسرائيلي» ـ السعودي ـ الأميركي الذي من المتوقع أن يحاول نسف القضية الفلسطينية إذا لم تبادر المنظمات الفلسطينية الكبرى إلى دعم الدولة السورية ورفض المشروع الوهابي ـ الصهيوني على المستويين العسكري ـ السياسي.

وما تفعله دمشق للدفاع عن أمّتها يحتاج إلى إسناد من القوى القادرة كلها والتي لا تزال متلكّئة بذرائع مذهبية وطائفية؟

إنه الشر المستطير الذي يهدّد العرب في استقرارهم ومستقبلهم فمتى نلتفّ حول الدولة السورية لمكافحته…؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى