البعلبكي: نمثل في العالم العربي سياسة تُقيم العروبة الواقعية
تابعت المحكمة العسكرية في جلستها السادسة استجواب المتّهمين في «حركة التمرّد الفاشلة»، حضر الجلسة عدد من النوّاب والقضاة ورجال السلك الدبلوماسي العربي وجمهور من المواطنين.
بدء الاستجواب:
الرئيس إميل أبو خير: محمد البعلبكي.
محمد: نعم.
وهنا تلا الرئيس الاتّهامات الموجّهة إلى البعلبكي وسأله ماذا يقول فيها؟
البعلبكي: سيدي الرئيس، قبل أن أدخل في صميم الموضوع، ليسمح لي أن أورد بعض النقاط بكلّ إيجاز:
إنّي أرجو رجاءً حارّاً من مقام النيابة العامّة الجليل أن لا يضيق بنا ذرعاً في دفاعنا عن أنفسنا في وجه التهم الموجّهة إلينا، ونحن لم نضق ذرعاً بالتهم الموجّهة إلينا وهي تطالب برؤوسنا.
وفي الجلسة السابقة أُتي على ذكر وثيقة منسوبة إلى رئيس الحزب الدكتور عبدالله سعادة على أنّها مشروع إصلاحي قدّمه الدكتور سعادة إلى المجلس الأعلى. فبصفتي رئيساً للمجلس الأعلى أشهد بأنّ الوثيقة لم تقدّم للمجلس، وأزيد أنّ وثيقة من هذا النوع لم تُعرض على المجلس الأعلى في يوم من الأيام.
الرئيس: الوثيقة وُجدت في أوراق الحزب وقُدّمت للمجلس الأعلى بعد حوادث عام 1958.
البعلبكي: أنا لا علم لي بها، و… وإننا حمدنا الله وشكرناه وسُررنا كثيراً عندما أكدت النيابة العامة أمس أنّ الوثيقة التي تقول: «من آمن بالإسلام فهو كافر، ومن آمن بالمسيحية فهو أكفر، ومن آمن بلبنان فليس منا» هي وثيقة مزوّرة. وقد أكدت النيابة العامة أن لا وجود لهذه الوثيقة، وأنا الذي أحاكَم أمامكم بتهمة إثارة الحرب الأهلية أقول إنّ هذه الحرب تثير الحرب الأهلية.
وتابع البعلبكي يقول، إنه مُحال أمام المحكمة بمواد جنائية يقضي أكثرها بالإعدام، واعتبر أخطر التهم تهمتَين:
التآمر على الكيان اللبناني.
تعديل الدستور بطرق غير مشروعة.
واستغرب لكون الإفادة التي أدلى بها أمام المحقق العام، قد اجتزأها القرار الظني وبتَر أهم ما ورد فيها ليُظهر أنّ القوميّين يريدون هدم كيان لبنان.
الرئيس: ماذا كان موقف الحزب القومي لجهة مبدئه الأساسي من حيث إيمانه بسورية الطبيعية، وبالنسبة للكيان اللبناني الرّاهن في حال نجاح الانقلاب؟
البعلبكي: إنّ إيمان الحزب بسورية الطبيعية هو إيمان قومي شبيه تماماً بإيمان القائلين بالقومية العربية. أي أنه شيء نظري فلسفي… وقد كنا ولا نزال نؤمن أنّ الكيان اللبناني هو أفضل محيط لإجراء تجربة تنزيه التفكير السياسي عن شوائب المفهوم الطائفي وإقامة دولة مستقلة علمانية حديثة، وأنّ لبنان مدعو لقيادة محيطه الطبيعي وأداء رسالته إلى هذا المحيط لجهة التطور المدني.
لقد اتُّهمنا بأننا نتآمر على الكيان اللبناني… القول بالقومية السوريّة والأمّة السوريّة والوطن السوري، هذه مسألة أصبحت واضحة للخاصة والعامة. إنها كالقول بالقومية العربية والوطن العربي نشء فكري واجتهاد علمي وفلسفي. هذا الموضوع اجتماعي علمي تاريخي لا علاقة له إطلاقاً بالكيانات السياسية القائمة.
الرئيس: ما هي حزبيّتك؟
بعلبكي: عضو في الحزب السوري القومي الاجتماعي.
الرئيس: ما هي تحيّتك؟
بعلبكي: تحيا سوريا
الرئيس: يعني لا وجود للبنان.
بعلبكي: هذه العبارة يدخل فيها سوء التأويل. و«تحيا سورية» ليس المقصود فيها الجمهورية العربية السورية، بل الفكرة الفلسفية. كما أنّ القول: تحيا العروبة ويحيا جمال عبد الناصر لا يشكل جريمة، ولا يعني هذا أنه لا يحيا لبنان. وإنّ أمر «يحيا لبنان» أمر بديهي بالنسبة إلينا، فهناك من يقول إنّ لبنان جزء من الوطن العربي.
الرئيس: التحية تكون للوطن الذي أنت فيه. يحيا لبنان لا تحيا سوريا.
البعلبكي: الأمر بديهي سيدي الرئيس بالنسبة إلينا. نحن نقول في كلّ لحظة يحيا لبنان.
ملاط: كيف يُفسَّر القول بأنّ عناصر الأمة غير متكونة ومتوفرة في لبنان؟
البعلبكي: حضرتكم أستاذ ملاط تسمّون «مفوّض الحكومة»، فأنا أرجو حضرة مفوّض الحكومة رجاءً حاراً أن يتفضّل ويسأل حضرة رئيس حكومتنا الأستاذ رشيد كرامي: ألا يؤمن بالقومية العربية والفكرة العربية والوطن العربي الواحد؟
الرئيس: نحن لا نرضى بديلاً عن كيان لبنان. وجميع الطوائف لا ترضى عن هذا الكيان بديلاً.
البعلبكي: أنا أشهد أنّ رئيس الحكومة الأستاذ رشيد كرامي هو من أخلص العاملين للكيان اللبناني مع إيمانه العميق بفكرة القومية العربية والأمّة العربية. فهل يُعتبر إيمانه هذا خيانة؟
وهنا أطلب الاستماع إلى شهادة كاظم الصلح، رئيس حزب النداء القومي ونائب زحلة و…. فقاطعه الرئيس: كان على كل متهم أن يتقدّم بأسماء شهوده قبل بدء المحاكمة وعندما تسلم نسخة القرار الظني.
البعلبكي: أرجو أن يتّسع صدرك يا حضرة الرئيس.
ملاط: أريد إجابة المتّهم فأنا لا أمثّل الحكومة. أنا أمثّل العدالة. أنا المدّعي العام العسكري. أمثّل الجسم القضائي.
وبعد أخذ وردّ، وبعدما تدخّل الدفاع والمحامي فريد حداد الذي ذكّر بمحاضرة ألقاها البعلبكي عن القومية الاجتماعية في الجامعة اليسوعيّة، وطلب تقديمها كمستند أساسي إلى المحكمة، طالب ملاط بأن يدخل المتّهم في صلب «المؤامرة».
البعلبكي: على النيابة أن تفسح لنا مجال الدفاع عن الكيان، أمّا «المؤامرة» فسنأتي على ذكرها ولن نتهرّب من المسؤولية. إذا كنّا نحاكَم على عقيدتنا، فهناك دول عربيّة نصّت في دساتيرها على أنّها جزء من من الوطن العربي ومع هذا أقامت حكومة لبنان أطيب العلاقات معها ولم تسألها ما إذا كانت هذه المواد في دستورها تعني لبنان، لأنّ الأمر فلسفي لا علاقة له باحترام الكيانات السياسية.
وتساءل البعلبكي، ردّاً على سؤال من الرئيس: هل الضمانات الحقيقيّة للكيان اللبناني هي المواثيق الدولية أو ميثاق 1943 الذي يكرّس لبنان معسكرات طائفية، هل هذه هي الضمانات الحقيقيّة للكيان اللبناني؟ كلا.
الولاء للوطن.. للمجتمع
الضمان الحقيقي هو بناء النفس اللبنانية والعقليّة اللبنانية بناءً جديداً وهذا ما نفعله نحن. الولاء للوطن.. للمجتمع. هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ ثانية نحن نفعل ذلك ونعلّمه لأبناء الشام والعراق والأردن. نعلّمهم أن يحترموا الكيان اللبناني، وأذكّر بكلمة قالها رفيق لنا نائب في دمشق، عصام المحايري. قالها في عهد كان أعضاء الحزب يحكمون، وكانت هناك يومها أزمة حادّة بين لبنان وسورية حشدت على إثرها الحشود العسكرية على الحدود. سُئل: لو أنّ أديب الشيشكلي هاجم لبنان، ماذا سيكون موقفكم؟ فأجاب المحايري بالحرف الواحد: لو خطرت على بال أديب الشيشكلي مثل هذه الحماقة لكنّا نحن في سورية نطعنه في الظهر ورفقاؤنا في لبنان يطعنونه في الصدر. هذه العقلية، تبني لبنان وتنجيه من الاستنجاد بالقوى الخارجية. وختاماً، أريد أن أعلن على الملأ أنّه مع إيماننا بالقومية السورية، نؤمن بالكيان البناني بحدوده الحاضرة دولة سيّدة حرّة مستقلّة، دولة نموذجية لكلّ دول العالم العربي. ونؤمن أخيراً بأنّ لبنان يجب أن يبقى ضمانة للقيم الإنسانيّة الكبيرة وفي طليعتها الحريات. هذا هو المجد الحقيقي الذي كان يجب أن يُعطى له، وسيعطى له. ولا أظنّ أنّ هذا كفراً بلبنان.
وتابع: أنتقل إلى النقطة الثانية من الاتهام، وهي تعديل الدستور. الدستور مقدّس كالقرآن، ولكنّ هذا الدستور نفسه يفسح المجال لكلّ لبناني أن يعدّل الدستور. نحن من القائلين بأنّه قد آن الأوان في عصور غزو الكواكب أن يتعدّل الدستور اللبناني، خصوصاً المادّتان 94 و95 اللتان نصّتا على التزام الطائفية في الشأن السياسي. هذه المواد وُضعت أيام الانتداب، وحتى الانتداب نفسه خجل من تثبيتها ونصّ على أنّها موقّتة وقال تراعى الطائفية على ألّا تضرّ بمصلحة الدولة، ونحن نقول إنّ الطائفية تضرّ بمصلحة لبنان.
أمّا أننا نريد تعديل الدستور بطريقة غير مشروعة، فاسمحوا لي.. إنّ هذا الاتهام في غير محلّه، ولو نجح الانقلاب واكتسبت الصفة الشرعية واشتركنا بحكومة انتقالية، لم يكن في تفكيرنا أن نفرض على الشعب رأينا بما يتعلّق بتعديل الدستور بالقوة، بل كنّا سنترك الأمر إلى هيئة تشريعية ينتخبها الشعب وتقرّر ذلك. وطبعاً سيكون للقوميّين رأي.
وأضاف، ردّاً على سؤال يتّهم الحزب بالجمعية السرّية وبالاتصال بالخارج: انطلاقاً من هذه العقلية ومن هذه النظرة الأصيلة في تفكيرنا إلى لبنان ومقام لبنان، ليس ممكناً أن يكون حدث 31 كانون الأول 1961 الذي اشترك فيه الحزب إلّا حدثاً لبنانياً صرفاً، فلا اتصال ولا علاقة لأيّة جهة خارجية أو عربيّة بموضوع محاولة الانقلاب، ولا بحث في تذويب لبنان أو تهديم كيانه أو سلخ جزء من أراضيه وضمّه إلى دولة أخرى.
أمّا أنّ الحزب يمثّل في العالم العربي سياسات إقليمية معيّنة ويناهض سياسات عربيّة أخرى، فلن نعلم كيف يمكن أن يكون هذا موضوع مؤاخذة؟
نعم أيّها السادة، إنّنا نمثّل في العالم العربي سياسة معيّنة نحن فخورون بها، إنّها السياسة المنبثقة من صميم تفكيرنا الفلسفي ومن صميم نظرتنا إلى العالم العربي. نحن فخورون بأنّ هذه السياسة هي السياسة التي تحارب الاختلاطات العجيبة والأوهام الغريبة في موضوع العروبة، لتقيم مكانها العروبة الواقعية جبهة متراصّة من أمم العالم العربي. عروبة العقل والفكر والواقع، لا عروبة العاطفة والعرق واللغة والدين.
لقد انتهى سعاده مؤسِّس الحركة القومية الاجتماعية في دراساته الطوبوغرافية والتاريخية والإثنية والاقتصادية إلى تعيين حدود البيئة الطبيعية التي حصل ضمنها الامتزاج والاشتراك المادّي والمعنوي في الحياة، الاشتراك الذي نشأ عنه حاصل حضاري ضخم.
ولم يَقم سعاده بتعيين هذه الحدود اعتباراً لغير ما اعتبره وآمن به تلامذته من بعده حقيقة علمية ثابتة. لذلك نراه يدخل ضمن هذه البيئة مثل كيليكيا وقبرص وغيرهما، لكنّ سعاده بإخلاصه العلمي للحقيقة أكّد أيضاً الطابع العربي الذي اكتسبته الأمّة ضمن هذه البيئة، واقتران هذا الطابع بجوهر هذه البلاد اقتراناً لا سبيل إلى انفصاله، واشتراكها مع بيئات العالم العربي الأخرى برابطة العروبة، لذلك يؤمن القوميّون الاجتماعيون بأنّ أمّتهم هي إحدى الأمم العربية، ومن غايات الحزب الرئيسية إقامة جبهة عربية بين أمم العالم العربي تقف سدّاً منيعاً في وجه الاستعمار على ألوانه والمطامع الأجنبيّة على أشكالها.
وكلّ عالم بالتاريخ يذكر أنّ اتصال هذه البيئة السوريّة بالعروبة يعود إلى ما قبل الإسلام، وأنّ أهل هذه البيئة لم يقبلوا الموجة العربيّة الكبرى المقترنة بالدين الإسلامي كحركة فتح، بل كحركة تحرّر تعاونوا معها تعاوناً تقوم تقوم عليه كلّ الشواهد التاريخية، وفتحوا لها قلوبهم وأيديهم وكان هنا في الأساس سبب انهيار الاستعمار الروماني يومئذ بتلك السرعة المدهشة.
البيئة السورية أعطت العروبة طابعها الحضاري
ولكنّ كلّ عالم بالتاريخ أيضاً يذكر أنّ هذه البيئة السوريّة هي التي أعطت العروبة طابعها الحضاري العظيم، وأقامت مجدها التليد في أطراف الأرض، فاللغة العربيّة التي أصبحت لغة هذه البلاد باتت في هذه البلاد أغنى بما تحمل من فكر ومستوى آداب، غنىً ليس في أصوات اللغة بحدّ ذاتها، بل بما تحمل هذه الأصوات من الأفكار والعلوم والآداب والفلسفات، ومن ذا الذي نقل آثار اليونان إلى العربيّة غير أبناء هذه البلاد، وكيف كان يمكن أن ينشأ مثل ذاك الفكر الفلسفي والعلمي الذي شهدته اللغة العربيّة لولا انتشار هذه اللغة في بيئة يتفاعل فيها فكر العالم في ذلك الزمان مثل ذلك التفاعل؟! ولنا من مظاهر الدولة ونظُم الإدارة الجديدة التي عرفتها هذه البلاد في عهد الخلافتَين الأمويّة والعبّاسيّة شاهد على ما نقول.
تلك حقائق يعلمها كلّ دارس للتاريخ، فإذا قلنا إنّ أهل البيئة الطبيعية السوريّة الذين انطبعوا بطابع العروبة الذي لا انفصام له، قد طبعوا هم أيضاً العروبة وأغنوا العروبة بما لم يكن لها به عهد، فإنّنا لا نعدو الحقيقة التاريخية الثابتة الساطعة لكلّ دارس.
عروبتنا هي ليست بداوة الجاهليّة، والإسلام العظيم الذي هو الحركة التي نهضت بالمجتمع العربي أكبر نهضة وجاءت تنفض بداوة الجاهلية وحياة البداوة، الإسلام أيضاً هو البداوة، كما أنّ المسيحية ليست عبودية الهيكل.
فليتّق الله المرجفون الذين يزعمون أنّنا، لتوكيدنا على الشأن الحضاري الأخطر في حياة الإنسان، نريد وطناً مسيحياً أو وطناً محمّدياً.
الحركة القومية الاجتماعية هي التي يعلم الناس جميعاً أنّها جهدت وتجهد لمكافحة التفرقة الطائفيّة في الشعب، وهي التي رفعت لواء الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة وأزالت الحواجز المذهبيّة بين مختلف الفئات. ذلك هو مقام العروبة في صميم تفكيرنا الفلسفي، وهذا هو مفهوم العروبة الذي منه انبثقت السياسة التي ينفي علينا قرار الاتهام أنّنا نمثّلها في العالم العربي.
ونحن بها فخورون، ولن يكون بإمكان أهل هذه البلاد أن يتنازلوا عن مكانهم ولا عن دورهم ولا عن رسالتهم إلى العالم العربي، وعلى لبنان الذي طالما لعب دور القيادة في هذا الميدان وكانت لأبنائه الأيادي البيضاء في بعث نهضة العالم العربي ودعوته إلى التحرّر من أنواع الاستعمار العثماني وغير العثماني أن يواصل دوره الفعّال في هذا السبيل القويم المنسجم مع واقعه الجغرافي الطبيعي وتاريخه الطويل. وانطلاقاً من هذه السياسة كنّا ولا نزال فخورين بأنّنا ندعو إلى أن يقيم لبنان أحسن العلاقات مع دول الهلال الخصيب في الحقول الاستراتيجيّة والاقتصادية والثقافية، وإلى أن تقوم أمتن العلاقات بين هذه الدول مجتمعة ودول العالم العربي في جبهة عربيّة متراصّة قويّة. ومن أشدّ دواعي فخرنا واعتزازنا أنّنا سعينا عملياً وتناولنا التحقيق في هذه القضيّة، ودعونا لإقامة تعاون بين العراق والأردن يضمن لهما معاً الازدهار والقوّة للوقوف في وجه عدو لبنان وعدو العروبة الأكبر، أعني «إسرائيل».
ولستُ أدري ماذا يمكن أن يكون في ذلك ممّا يؤاخذ عليه وميثاق الجامعة العربية الذي وقّع عليه لبنان يشجّع على ذلك وعلى أكثر من ذلك، حتى أنّه يذهب إلى حدّ التشجيع على إقامة الاتحادات بين الدول العربيّة التي ترتضيها. وميثاق الضمان الجماعي نفسه الذي يشترك فيه لبنان له مثل هذا المعنى، حتى أنّ الموافقة قد حصلت من جانب لبنان على مبدأ القيادة العسكريّة المشتركة. ولبنان خاصّة، وبتوجيه من الرئيس شهاب نفسه يوم كان قائداً للجيش كان ولا يزال موافقاً على مبدأ التنسيق العسكري مع الشام، ولا أذكر كصحافيّ وقد نشر هذا يومئذ في مختلف الصحف اللبنانية أنّ المحادثات في هذا الشأن بلغت يومذاك الموافقة على مبدأ دخول لواء سوري إلى الأراضي اللبنانيّة للدفاع المشترك عن الحدود، ولكنّ الأمر لم يتمّ لاختلاف على تفاصيل ليس هنا مجال ذكرها.
انطلاقاً من سياستنا تلك، كنّا ولا نزال نعتقد بوحدة الجبهة اللبنانيّة السوريّة الأردنيّة ضدّ «إسرائيل» دفاعياً وهجومياً، وبأنّ للاحتياط الاستراتيجي الكبير الأوحد في معركة «إسرائيل»، أي القوة العراقية الضاربة، لا مناص لها من الأراضي السورية الأردنيّة لأداء دورها في هذه المعركة، وكنّا لا نزال نعتقد أيضاً بأنّ قبرص التي يأخذ علينا بعض الناس على سبيل الهزء اعتبارنا إيّاها جزءاً من الأراضي القوميّة هي قاعدة لها أبلغ الأثر في استراتيجيّة المنطقة، وقد كانت مؤخّراً منطلق عمليّات جويّة شملت هذه المنطقة في الحروب، فضلاً عن أنّ العدوّ «الإسرائيلي» اتّخذ منها منطلق غزو اقتصادي وتجسّس ضدّ لبنان وشقيقاته بشكلٍ خاص.
وانسجاماً مع سياستنا هذه، كنّا أوّل من أيّد انقلاب الرئيس عبد الناصر يوم كان منصرف الهمّ إلى إقامة نهضة مصر والشعب المصري الشقيق. وكان للحزب، ولي، شرف الاشتراك في حمل لواء هذا التأييد، والرئيس عبد الناصر يعلم ذلك وكذلك السيد عبد القادر حاتم وزير الدولة للإرشاد.
وانسجاماً مع هذه السياسة، تطوّع المئات مِن القوميّين الاجتماعيّين بدعوة من قيادة الحزب للدفاع عن تونس الشقيقة للدفاع عن أزمة بنزرت.
واختتم البعلبكي قائلاً: أيّها السادة القضاة، في ما نفتخر به من تراث التشريع العربي أنّ عمر بن الخطّاب الخليفة العادل، الفارق بين الحقّ والباطل، ذلك الذي قال عنه رسول كسرى وقد رآه نائماً تحت شجرية في البريّة: «عدلت فأمنت فنمت».
في ما نفتخر به من آيات ذاك التراث، أنّ عمر بن الخطّاب حكم ببراءة سارق ثبت ارتكابه لجريمة سرقة فلم يقطع يده، بل أمر بإطلاق سراحه على الفور. وما ذلك إلّا أنّه تحقّق لعمر أنّ مجاعة كانت منتشرة في تلك الأيام، وأنّ الأثرياء من جهتهم يتلكؤون عن أداء الزكاة المفروضة.
وكان هذا الحكم المثالي الكبير والإسلام ما يزال بكراً في العاشرة من عمره، والقرآن الكريم ينصّ صراحة على قطع يد السارق من دون أيّ تفصيل، والسرقة يا سادة من أكثر الجرائم السائدة دناءة. ذلك أنّ الخليفة العظيم، كان ينظر إلى علل الأحكام وأسبابها، ويقدّم الحافز على الجريمة في الاعتبار على الفعل الجرمي بحدّ ذاته.
وقبل عمر بن الخطاب كان تعليم بولس الرسول في رسالة إلى أهل كورنثيا. إنّ الحرف يقتل وأمّا الروح فيحيي.
أيّها السادة: بين قاعدة بولس الرسول الخالدة وبين النمط العمَريّ الأصيل في فهم روح العدالة، يقف اليوم بين أيديكم القانون بروحه ونصّه كما نقف نحن.
لن نطالبكم بالبراءة على ما فعل عمر، ولكنّنا نتوقّع أن تعدلوا فتأمنوا فتناموا كما نام عمر، ويكفي أن تذكروا أنّكم ستلفظون حكمكم بِاسم شعب لبنان الذي أحببناه حتى الموت. هذا الشعب الذي يبقى هو والتاريخ هما صاحبا الكلمة العليا في هذه القضية والسلام عليكم.
ورُفعت الجلسة إلى يوم الثلثاء المقبل لطرح الأسئلة على الأستاذ محمد البعلبكي من قِبل النيابة العامّة التمييزيّة ورئيس المحكمة ووكلاء الدفاع.