السعودية تكرّر ما فعلته تركيا عام 2016 حرب 2017 ستجلب إلى دوما نموذج حلب

شكّل العام 2016 عام الاختبار الأخير للقيادة التركية للحرب على سورية، ففيه كانت القيادة السياسية والعسكرية بيد أنقرة، وكان حصان جبهة النصرة مسرجاً لها ومعه الفصائل التي تتبع مباشرة للمخابرات التركية وتلك التي ترعاها واشنطن ومعهما الجماعات المموّلة والمشغلة من السعودية، فقد التقت قوات نور الدين زنكي وفيلق الرحمن التركيان وأحرار الشام الأميركية وجيش الإسلام السعودي في معارك شمال سورية، كما التقت قيادات الأخوان المسلمين التي تقودها تركيا مع جماعات المعارضة السياسية المقيمة في الرياض والمموّلة منها، من رياض حجاب ورياض نعسان ومَن معهما من الفريق التابع للسعودية والجميع تحت الإمرة التركية، منذ إسقاط تركيا الطائرة الروسية وصولاً لقطع العلاقات الروسية التركية بقرار من موسكو التي بقيت خلال عام 2016 تُسمّى احتلالاً معادياً من قبل فريقي الفصائل المسلحة والمعارضة السياسية.

عقد جنيف الثالث في مناخ من التصعيد التركي السياسي على روسيا ومناخ تصعيد ميداني في جبهات الشمال السوري، وانهيار وقف النار الذي كان قائماً بفعل مضمون الهدنة التي أقرها الروس والأميركيون، وتمكن خلالها الجيش السوري من تحرير تدمر من سيطرة داعش، بينما كان الأتراك والأميركيون والسعوديون يحشدون القوى رجالاً ومالاً وسلاحاً وينظمون الصفوف تمهيداً لمعركة فاصلة يريدونها معاً تحت عنوان تعديل توازن القوى الميداني بما يتيح التفاوض من موقع قوي يريد له السعوديون والأتراك ومن خلفهم الأميركيون تقسيم جغرافيا الشمال التي يفترض أن يسيطر عليها الأتراك وفي قلبها حلب، ورقة قوة تتيح الإمساك بمستقبل سورية ضمن معادلة ربط وحدة سورية بدمج حكومتين، حكومة مقرّها دمشق وأخرى مقرّها حلب.

فيما كان التصعيد يجري من طرف الجماعات المسلحة شمالاً وتدخل هذه الجماعات إلى مناطق كانت تحت سيطرة الجيش وحلفائه في جنوب غربي حلب، وخصوصاً خان طومان تمهيداً لربط الأحياء الشرقية للمدينة بخزان جبهة النصرة البشري في إدلب، كان جنيف في جولته الثالثة يسجل تمهيداً لانسحاب الوفد المفاوض باسم جماعة الرياض أو الهيئة العليا للتفاوض كما يسمّونها، بذريعة رفض التفاوض في ظل الحصار والقصف، ورفع الفرنسيون والبريطانيون والأميركيون شعار وقف ما أسموه بالبراميل المتفجرة كشرط للعملية السياسية، والواضح كان أن كل ذلك يجري، لأن خلف الباب معركة كبرى قيد التحضير يراهن عليها الجميع وقد تورط فيها الجميع، وأن المسعى الروسي لتثبيت الهدنة وللتفاهم مع الأميركيين على قواعد عمل مشترك تحت عنوان الحرب على الإرهاب، وفصل المعارضة عن جبهة النصرة ستلقى التمييع الأميركي ريثما تكتمل عدة الحرب.

مع انهيار جنيف في الجولة الثالثة بانسحاب مفاوضي مقاعد المعارضة التي تفرّدت بها جماعة الرياض، كان الميدان قد صار جاهزاً لجولة المواجهة الجديدة، وبدأ التصعيد على محاور شمال سورية جميعها، وتمكّن الجيش السوري وحلفاؤه من توجيه الرسالة الأولى حول ما ستسفر عنه المواجهة بتقدّمه إلى معبر الكاستيلو الذي يربط الأحياء الشرقية لمدينة حلب بتركيا ويشكّل خط الإمداد الرئيسي للجماعات المسلّحة، بينما كانت الجماعات المسلحة التي استعدّت وجهّزت قرابة ألف وخمسمئة آلية بينها مئتي دبابة جلبتها من تركيا، ووصل إلى صفوفها قرابة خمسة عشر ألف مسلح من المستجلَبين من أنحاء الدنيا، وفقاً لما كشفه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في شهر حزيران معلناً أن حلب ستكون الحرب الفاصلة ولن تسقط، وكان نجاح الفصائل المسلّحة بقيادة تركية بفتح معبر الراموسة الذي يربطها بإدلب ويوفر فرصة بدء الهجوم للسيطرة على حلب.

اندلعت معارك الكرّ والفرّ وسجال الدخول والخروج في محاور الراموسة والكليات الحربية، ما أوحى بمخاطرة أميركية تركية في القطع الكلي مع روسيا، فكان الحوار في جنيف بين وزيري الخارجية الأميركي والروسي وخبراء روس وأميركيين لإنتاج التفاهم الخاص بفصل المعارضة عن النصرة وتوحيد الجهود في الحرب على النصرة وداعش وبقي على الورق. وكان الاعتذار التركي من روسيا وتطبيع العلاقات والإعلان عن التعاون في وقف النار وتشجيع الحل السياسي في سورية، لكن كل شيء كان ينتظر الكلمة الفاصلة من ميادين القتال، فبدونها لن يكون اليقين بالفشل، وبدونها لن يهون جلب أي من الفصائل والتشكيلات المعارضة إلى طاولة التفاوض.

كانت واشنطن قد دخلت الانتخابات الرئاسية والتنافس على الخيارات نحو الشرق الأوسط يشكل محوراً رئيسياً في السياسات المعلنة للمرشحين المتنافسين دونالد ترامب وهيلاري كلينتون، بين سياسة ترامب التي تحمل إدارة الرئيس السابق باراك أوباما ومرشحة حزبه كلينتون مسؤولية استيلاد تنظيم داعش وخوض حرب عبثية في سورية لإسقاط نظامها، وإعلان عن العزم على التعاون مع روسيا لحصر الحرب بالإرهاب، وخطاب شعبوي عن الخليج والسعودية وتبعية كلينتون لمال النفط وشيوخه، وكانت كلينتون تتقدّم بخطة تقف على يمين إدارة أوباما ووزير خارجيته جون كيري بالدعوة لدعم الفصائل المسلحة والتخفف من فوبيا الحرب على النصرة، واعتبار إسقاط سورية جزءاً من الحرب على الإرهاب فهي صاحبة نظرية أن المعارضة ستتكفل بعد إسقاط النظام بالقضاء على الإرهاب، وهو خطابها التقليدي يوم كانت وزيرة للخارجية قبل سنوات، وهو خطابها تجاه مستقبل ليبيا التي تم تسليمها للإرهاب بأيد أميركية بالنظرية والتطمينات ذاتهما.

كان سير المعارك في حلب يتمّ في ضفة والمعركة الانتخابية الرئاسية الأميركية في ضفة، وعندما أعلن فوز الرئيس دونالد ترامب كانت معارك حلب تبشر بانتصار الجيش السوري وحلفائه، وكان الإحباط المزدوج في معسكر صناعة الحرب، فخسرت السعودية رهانها على وصول هيلاري كلينتون وخسر الأتراك رهانهم على حرب حلب، وبينما قرّر الأتراك الانعطاف لملاقاة النتيجة الجديدة وبدأوا يتحدّثون عن أولوية جديدة عنوانها الأمن القومي التركي ومحورها منع قيام شريط أمني كردي متصل على الحدود بينهم وبين سورية، كانوا يستعدّون لتموضع يتيح لهم ملاقاة التفاهم الروسي الأميركي المتوقع، وفقاً لخطاب الرئيس الفائز في الانتخابات، وولدت لقاءات موسكو وبعدها أستانة تحت عنوان كانت موسكو تنتظره من أنقرة وهو فصل المعارضة عن النصرة.

شكل الارتباك في خطوات إدارة الرئيس ترامب تجاه السير نحو تطبيق ما بشر به انتخابياً، لجهة التعاون مع موسكو في أولوية الحرب على داعش، ومن ثم تراجع ترامب أمام المؤسسة التقليدية الأميركية في المخابرات والبنتاغون الرافضة لهذا التعاون، والذي توّج باستقالة مستشار الأمن القومي المعين حديثاً مايكل فلين باعتبار اتصاله بالسفير الروسي في واشنطن شائنة لا يمكن تقبّلها، أسباب لتبلور مشهد جديد في واشنطن، بدت فيه السياسة الأميركية وقد عادت للبنتاغون، كما كانت في عهد أوباما، وبدا البيت الأبيض مهتماً بالتصعيد ضد إيران وطمأنة إسرائيل على التزاماته الجدية معها. وهذه الثلاثية الأميركية كانت كافية لإنعاش الآمال السعودية بتسلّم القيادة لجولة حرب جديدة في سورية.

انهار جنيف الرابع وسقط أستانة الثالث بقرار سعودي، وتلقى الأتراك صفعات متتالية لرهاناتهم حول الحصول على تطمينات أميركية باعتمادهم بديلاً للأكراد في الحرب على داعش، لكنهم تلقوا أجوبة روسية غير مطمئنة لجهة التخلي عن الأكراد، وحدث ما حدث في منبج من تواصل بين الأكراد والجيش السوري وبلوغ الجيش ضفاف الفرات، ليتشكّل مشهد جديد يضع السعوديين و الإسرائيليين أمام معادلة السير سريعا نحو جذب واشنطن لفصل حرب الجنوب عن حرب الشمال، وجعل عنوان حرب الشمال القتال ضد داعش، وعنوان حرب الجنوب مواجهة ما يسميانه النفوذ الإيراني والمقصود طبعا الجيش السوري وحزب الله، ودعوة واشنطن لتجميد أي مسعى انفتاحي ولو بالتغاضي عن الدولة السورية، وترك اختبارهم لتوظيف متاعب جبهة النصرة ومخاوفها في جعلها شريكاً في الحرب على داعش.

قامت الحركة الإسرائيلية على فرض خطوط حمراء تشكل منظومة الأمن المستقبلية لـ إسرائيل المذعورة من تعافي سورية بخياراتها ذاتها وتحالفاتها ذاتها، لكن بقوتها المتعاظمة وتماسك حلفها مع حزب الله. وعنوان هذه الخطوط الحمراء وضع جنوب سورية تحت مجهر مراقبتها، وإخراج أي وجود وأي سلاح يشكلان مصدر قلق لها. ولذلك سعى الإسرائيليون وهم يدعمون الحركة السعودية لإعادة توحيد مَن تفرقوا في أستانة، أي النصرة والفصائل، لخوض جولة حرب جديدة، لانتزاع قواعد اشتباك تتيح لهم حرية حركة طيرانهم في الأجواء السورية، وشنّ الغارات التي تقدّمهم كقوة عظمى تملك حق النقض في الأمن السوري، لكن نتائج الاختبارات الإسرائيلية كانت مخيّبة لآمالهم ووضعتهم أمام معادلات جديدة، تشير لمخاطر الوقوع في مغامرات تخرج عن السيطرة، سواء بالرضوخ للردع الصاروخي السوري أو بتحديه بمواجهات أوسع.

تأتي الحركة السعودية التي افتتحها ولي ولي العهد محمد بن سلمان من واشنطن على إيقاع تفجيرات انتحارية لجبهة النصرة في دمشق لتستثمر على الحاجتين الإسرائيلية والتركية لتغيير الموازين، بعد الطريق المسدود الذي بلغه كل منهما، ووضع لذلك كل ما عنده في القجّة السعودية، رصيداً يراهن بتحوله إلى أرباح، فكانت التحضيرات لمعارك دمشق وحماة وبعدهما ومعهما أرياف اللاذقية وحلب، ومحاولة إغلاق طريق حلب حماة عبر السلمية، وتهديد الساحل السوري من بوابتي إدلب وريف حماة، ولو تأخّر الجيش في حسم تدمر ونجحت محاولات استئخار تسوية حي الوعر في حمص التي استمات السعوديون لمنعها، وأفشلوا أستانة الثالث لهذا الغرض، لرأينا حمص ضمن ساحات التسخين والتصعيد، بعدما ظهر أن النصرة التي تقاتل داعش استعراضياً في القلمون ومخيم اليرموك لتقديم أوراق الاعتماد للأميركيين وفقاً للطلب السعودي، تعاون مع داعش لتطويق طريق السلمية نحو حلب.

حرب 2017 التي يقودها محمد بن سلمان تشبه حربه في اليمن، تحت عنوان استباق التفاهمات الكبرى، ومثلما كانت حرب اليمن محاولة يائسة لا تزال مستمرة لمنع التفاهم على الملف النووي الإيراني، عبر تقديم الإثبات على القدرة، تخوض السعودية مع محمد بن سلمان هذه الجولة من حربها في سورية تحت شعار منع التفاهم الروسي الأميركي بتقديم الإثبات على القدرة، ولذلك ستكون جولة حرب حقيقية توضع فيها المقدّرات والمخابرات ويستجلب المقاتلون ولن تكون مجرد تسخين تفاوضي، بل سيخضع التفاوض لمقتضياتها كما خضع جنيف الثالث لمقتضيات حرب حلب التي قادتها تركيا. وقد ينجح السعوديون والجماعات المسلحة وفي طليعتهم جبهة النصرة بدخول مواقع والسيطرة على مواقع والتسلّل إلى مواقع وإرباك أمن مناطق، كما حدث في جبهات حلب قبل عام، لكن في الحصيلة ستجتمع قوى الدولة السورية والحلفاء وقرارهم وسنكون أمام عملية حاسمة، ربما تكون إدلب هدفاً لها وربما تكون درعا لكن دوما عاصمة الحضور السعودي ستكون جزءاً عضوياً منها يشهد ما شهدته حلب، مهما تأخر هذا القرار أو استدعى تنفيذه، حتى تعود الكلمة للمسار السياسي مجدداً..

ناصر قنديل

ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى