دفاتر هايدغر «السوداء» تكشف عنه أسراراً

كتب حسونة المصباحي العرب أونلاين : صدر في كلّ من ألمانيا وفرنسا هذا العام 2014 كتاب «الدفاتر السّوداء» للفيلسوف مارتن هايدغر 1889-1976 مؤلف «الوجود والزمن» الذي لا يزال مرجعا أساسيّا في مجال الفلسفة المعاصرة، وإليه يعود جميع الفلاسفة من مختلف التيّارات.

شكّل صدور هذه الدفاتر حدثاً بارزاً لكونها وثيقة مهمّة جداً لرصد مسيرة فيلسوف كان ولا يزال ذا تأثير هائل في الفلسفة في العالم برمّته، كما كان له تأثير في فلاسفة ومفكرين كبار مثل هانّا آرندت وميشال فوكو وجان بول سارتر وليفيناس ومارلو بونتي وهربرت ماركوزه وهابرماس وجاك دريدا وآخرين.

تأثر مارتن هايدغر الذي ينتسب إلى عائلة كاثوليكيّة من «الغابة السوداء» في البداية بأستاذه إدموند هوسرل صاحب مذهب «الفينومينولوجيا» الظاهراتيّة . لكنه تحرّر في العشرينات من القرن الماضي من هذا التأثير ليكتب مؤلفه «الوجود والزمن» الذي حقّق له شهرة عالميّة واسعة وأتاح له تبوُّء مكانة رفيعة في مجال الفلسفة. لذلك لم يتردّد طلابه، والمعجبون به في تلقيبه بـ»ملك الفلسفة المتوّج». وفي مطلع الثلاثينات من القرن الفائت، تحديداً عام 1933، قبل مارتن هايدغر اقتراح النازيين ليكون عميداً لجامعة فرايبورغ. ولم يكن يعبأ بالملاحقات التي كان يتعرض لها المثقفون والمفكرون والشعراء والكتاب الرافضون للنازيّة، ولا بالتهديدات التي كانت تطولهم، وتحرمهم من عملهم وتجبر كثراً منهم على الفرار إلى المنافي، إذ ألقى هايدغر خطاباً في حفل تنصيبه احتفى فيه بوصول النازيين إلى السلطة، ممجّداً الاشتراكية القوميّة ومعتبراً إيّاها «ثورة» قادرة على إنقاذ ألمانيا من الأزمات التي كانت تتخبّط فيها خلال تلك الفترة. وفي منشور وزّعه على الطلاب كتب يقول: «إن الفوهرر هو وحده الحقيقة والقانون في ألمانيا بالنسبة إلى الحاضر والمستقبل». لم يكن «منشقاً داخلياً» على ما يزعم أنصاره، ولا «نازياً نذلا وشريراً» على ما يراه أعداؤه، بل كان فيلسوفاً مهتماً أساساً بنفسه.

خلال سنوات الحرب، صمت هايدغر عن جرائم النازيّة، بل جمّد علاقته مع أستاذه إدموند هوسرل، وحذف الإهداء الذي خصّه به في كتابه «الوجود والزمن»، كما جمّد علاقته بصديقه كارل ياسبرس الذي كان تعرّف إليه في بيت هوسرل في فرايبورغ عام 1920.

بعد الحرب الكونيّة الثانية، تشكلت لجنة لمحاكمة هايدغر باعتباره «فيلسوفاً في خدمة النازيّة»، وفي التقرير الذي أرسله إلى اللجنة المذكورة، كتب كارل ياسبرس: «إن طريقته -يقصد هايدغر- في التفكير، التي تبدو لي دنيئة وخسيسة وديكتاتوريّة، خالية من أيّ اتّصال مع الآخر، ستكون اليوم ضارّة جداً في مجال التدريس. إنّ هذه الطريقة تبدو لي أهمّ من محتوى الأحكام السياسيّة الذي يمكن أن يتغيّر بسهولة. وطالما لم يمتلك هايدغر انبعاثاً أصيلاً، لا بدّ من أن يكون واضحاً وجليّاً في أعماله الفلسفيّة، فإنّ أستاذا كهذا، بحسب اعتقادي، لا يمكن أن يكون على صلة بشبيبة اليوم التي تكاد تملك عناصر المقاومة الداخليّة».

رغم ذلك، قام بعض الفلاسفة والمفكرين، مثل اليهودية الألمانية هانّا آرندت التي كانت عشيقته «السريّة» أثناء دراستها الجامعية، وجان بول سارتر، وهربرت ماركوزه، وجان بوفيره بالدفاع عن هايدغر وغضّ الطرف عن الأخطاء السياسية التي ارتكبها في الفترة النازية.

في الحوار الذي أجرته معه الأسبوعية «دير شبيغل» عام 1970، ولم ينشر إلاّ عقب وفاته، دافع هايدغر عن مواقفه وأفكاره ونزّه نفسه من معاداة الساميّة، معتبراً أن المواقف التي اتخذها كانت تهدف إلى «إنقاذ ما ينبغي إنقاذه». وأقرّ بأنه كره العيش في المنفى لأنه مرتبط ارتباطاً روحيا باللغة الألمانيّة، وبـ»الغابة السوداء» التي يستوحي منها أفكاره، ولا يطيق الابتعاد عنها. لذلك رفض مغادرتها للتدريس في جامعة برلين.

تتضمّن «الدفاتر السوداء» الملاحظات والأفكار والآراء التي دأب هايدغر على تسجيلها في دفاتر ذات أغلفة من فرو الخلد الأسود بدءاً من عام 1930 إلى عام 1970، وفيها نشتمّ ما يمكن اعتباره «عداء للساميّة». فهو يعتبر اليهود مختلفين عن الألمان، ويرى أنهم يولدون ذوي موهبة وميل لـ«الحساب وحبّ المال وتكديسه». كما أنهم يتمتعون بقدرة فائقة على التلاعب وعلى إخفاء نواياهم الحقيقيّة والتستّر عليها،

وهم بعقليتهم التجاريّة يتجرّدون من سائر القيم الأخلاقيّة. وهم يكوّنون «لوبي» عالميّا أفقد الغرب القدرة على مواجهتهم، بل إنهم جرّوه إلى حروب دمويّة. غير أن الفرنسي بيتر تراوني المشرف على أعماله الكاملة يرى أن أفكار هايدغر عن اليهود كانت جانبيّة، وغير مختلفة عن الأفكار التي كانت رائجة حول اليهود في أوروبا على امتداد قرون طويلة، ويرى أن التركيز عليها يفقدنا الاهتمام بما هو أساسي وجوهري في فلسفته الوجودية التي كان يهدف من خلالها إلى إحياء القيم الإنسانية وبعث الحيوية في الثقافة الغربية المهدّدة بالضمور والذبول في عصر الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة، و»التأمرك» المريع الذي انتشر انتشاراً واسعاً في المجتمعات الأوروبية، مشيعاً فيها السطحيّة والابتذال.

يمكن القول ونحن نتصفح «الدفاتر السوداء» إن هايدغر لم يكن «منشقّاً داخلياً» مثلما يزعم أنصاره، ولا «نازيّاً نذلاً وشرّيراً» مثلما يراه أعداؤه، بل كان فيلسوفاً مهتماً أساساً بنفسه، وبفكره الوجودي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى