أشواق وشوقيّات!
د. يسري عبد الغني عبد الله
كان طه حسين هو الذي دعا إلى دراسة الأدب المصري الحديث، وجعل له كرسياً في كلّية الآداب/جامعة القاهرة، سمّاه «كرسيّ شوقي».
ولكن هذا الكرسيّ انخلع إلى غير رجعة، وإن كان اسم شوقي مهما قيل عنه، وسيقال، لم ولن ينخلع من قلوب المتحدّثين بلغة الضادّ الجميلة الخالدة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
انخلع الكرسي، ولم نجد له أثراً يذكر في دراسة أدبنا العربي الحديث، بل أنه لم يجلس عليه دارس واحد لعبقرية أمير الشعراء/ أحمد شوقي التي من المحال أن تتكرّر.
محمد عبد الوهاب، أمير النغم العربي، مطرب الأجيال، وكذلك سيدة الغناء العربي/ أمّ كلثوم، هما أعظم من أسمَعَنا صوتاً، وعرّفنا فناً وأدباً، والتزاماً، وصدقاً، واحتراماً للفنّ والإبداع، كان شوقي لهما هو صاحب الكلمة، وقد دخلا بوابة الخلود الفني عبر شوقي.
وعندما حلّل الدكتور/ محمد حسين هيكل باشا شخصية أحمد شوقي، في مقدّمة «الشوقيّات»، كتب كلاماً جادّاً من أمتع ما كُتب عن شوقي، ولم يكن إعجاب هيكل باشا المثقّف المستنير بشوقي الأمير من فراغ، أو بلا سبب، فقد كان إعجاباً بالشعر والإبداع، قبل أن يكون إعجاباً بشخص الشاعر.
ولقد وقف هيكل باشا بحثه الفنّي المرهف عند القصائد الخالدة لشوقي، وهي التي تغنّت بها كوكب الشرق/ أمّ كلثوم بعد ذلك، مثل: «ريم على القاع بين البان والعلم» نهج البردة و«سلوا قلبي غداة سلا وتاب» سلوا قلبي ، و«ولد الهدى فالكائنات ضياء» الهمزية .
كيف التقط هيكل باشا هذه القصائد الجميلة العذبة، من «الشوقيات»؟، كيف التفت إليها في براعة وذكاء، ومعرفة؟ هذا هو السرّ الذي جمع بين شوقي، والدكتور هيكل باشا، وسبحان من يعرف الأسرار في نفوس البشر!
قطعاً، ستظلّ الأذن العربية تستمع وتردّد كلّ الكلمات الرائعة التي غنّاها محمد عبد الوهاب، والتي غنّتها أمّ كلثوم، ولكن الأخلد منها دائماً وأبداً، كلمات أحمد شوقي.
ولقد حكى لنا الدكتور زكي مبارك، كيف آثر شوقي لقاء طه حسين على لقائه. مع أن زكي مبارك كان من الدعاة إلى عبقرية شوقي، وطه حسين كان من المعاندين لشوقي. ونحن لم نعرف أو أكثرنا لا يعرف ما هو اسم السيدة الفاضلة زوجة أمير الشعراء أحمد شوقي، لأنّ المجتمع المصري أو العربي في عصره كان يخفي النساء في «الحريم»، وكان الرجل عندما يتحدّث عن زوجته، يكنّي عنها بتعبير «الجماعة»، فيقول: «جماعتنا ذهبت»، و«جماعتنا جاءت»!
كانت الأنثى الوحيدة التي عرفها شوقي للناس، هي ابنته «أمينة»، ولعلّه فعل ذلك لأنها كانت ما زالت طفلة صغيرة، محال أن تطمع فيها العيون.
الدكتورة سهير القلماوي هي تلميذة نجيبة لطه حسين، وأولى الطالبات اللاتي التحقن بكلّية الآداب/جامعة القاهرة، وحصلت على درجتَي الماجستير والدكتوراه، تقول لنا: «لا بدّ من أن نتصوّر بعين الخيال، حال المرأة في عصر شوقي، لنرى الواقع الذي استطاع الشاعر أن يستوحيه في مسرحياته».
وإن يكن شوقي قد عالج المرأة في عصور عدّة، في مسرحياته، فإنه كان دائماً محكوماً بالواقع الذي يعيشه، وسواء كانت المرأة في مسرحه قد بعثها من أغوار التاريخ، مثل الملكة «كليوباترا»، أو هو قد ألبسها حياة الفنّ من الواقع القريب، مثل «الستّ هدى»، فإن المعالم العامة التي جالت فيها صورة الماضي البعيد، والحاضر القريب، كانت تحدّدها ظروف الحياة من حول شوقي.
لقد قال شوقي مقطوعات شعرية طريفة في ابنته «أمينة»، ولعلّه ألّف أشعاره للأطفال، أو قصصه الشعرية على ألسنة الطير والحيوان من أجلها.
كان شوقي يحبّ ابنته «أمينة» حباً شديداً، ويمنحها عن رضاء تام حافظة نقوده، تتصرّف فيها كما يحلو لها، وما منعها أبداً عن ذلك. كان حبّ شوقي لابنته حباً عظيماً، بل إنه من أنبل وأعظم أشكال الحبّ الإنساني.
وكانت عواطف شوقي الأبوية زاخرة، عاصفة، حتى أنه اصطحب ولديه «حسين» و«علي» معه عندما نفي إلى أسبانيا، ووجد فيهما السلوة في الاغتراب.
ولكن شوقي لم يطلب من السلطات الإنكليزية اصطحاب زوجته معه إلى منفاه، ولو طلب ذلك لوافقوا عليه فوراً، وهذه إحدى عجائب عبقرية شوقي!!
كيف ذلك؟
أقول: شوقي ليس بحاجة إلى المرأة بالمعنى التقليدي المعروف لدينا، ولكنّه بحاجة ماسّة إلى حبّ آخر، من لون آخر، هو حبّ الأبناء، لا حبّ النساء، أو عشق النساء.
حقاً إن الناس فيما يعشقون مذاهب ومذاهب، كان شعر شوقي في منفاه الإسباني ينمّ عن حبّ آخر أعظم من حبّ المرأة، فقد كانت كلماته كلّها، ترتبط بمصر، وبحبّ مصر، وهو القائل لنا:
وطني لو شغلت بالخلد عنه
نازعتني إليه في الخلد نفسي.
أكاديميّ وخبير في شؤون التراث الثقافي/مصر