في «الطواحين»… كلٌ يغنّي على ويلاه من دون أن تتوقّف عجلة الحياة!
وجيهة عبد الرحمن
رواية «الطواحين» للروائيّ السودانيّ عبد العزيز بركة ساكن، الصادرة عن «دار رؤية» في طبعتها الرابعة، من الروايات القليلة التي تجعل القارئ يقف على أرض منبسطة، بحيث يستطيع رؤية كلّ ما حوله، من خلال اللغة السردية الممزوجة بالشاعرية الفذّة التي يملكها الروائي.
بالتجوّل على هذه الأرض المنبسطة الرواية نستطيع الغوص في عمق المآسي والتحدّيات التي واجهت أبطال الرواية من خلال تعدّد البيئات، والتي كانت العنصر الأهمّ في الرواية؟ إذ إنّ البيئة كانت التربة الخصبة التي أنتجت تلك الشخصيات، والذين اختلفت طواحينهم، كلّ واحد وفق معاييره الحياتية.
لأنّ بركة ساكن جعل من روايته مسرحاً قدّم على خشبته قصصاً تعبّر عن الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية في السودان. الممثلون هم شخصيات نموذجية ذات ثقافة عالية وعمق إنساني، تكاد تملك كل الشخصيات الصفات النفسية ذاتها القدّيسة، المختار، مايا زوكوف، نوار سعد، والآخرون . لأن الرواية تدور أحداثها في عالم تتعدّد فيه الشخصيات التي تتقاطع برؤاها ومواقفها الواحدة. فهم يتشاطرون الفرح والهمّ والحزن معاً، وكذلك اللحظات غير العادية.
من خلال السرد نلاحظ أنّ الرواية افتقرت إلى الحبكة أو ما يمكن تسميتها بالعقدة، والتي تكون على الغالب الأساس الذي تُنبني عليها الرواية. على أن ما يحسب لبركة ساكن، عدم اتّباع النمط التقليدي في نسج خيوط الأحداث، بل كان السرد هادئاً، رزيناً في قالب لغويّ متين، وترابط أحداث متسلسلة، بحيث أنّه سدّ الثغرات كلّها التي قد تشكّل مأخذاً على النّص، باستثناء موضوعة تعايش «القدّيسة» مع «المختار». فهي ـ رغم أنها امرأة متزوجة، وعلى خلاف مع زوجها ـ استطاعت التخلّي عنه، ولم يكن ذلك بالأمر اليسير لتسكن في المحراب مع «المختار»، فتجمعهما علاقة صداقة نزيهة فريدة من نوعها، جوهرها العلم والثقافة والتأمل في عوالم الطبيعة المجردة والمحسوسة، بغاية الاستكشاف واستنباط عالم فرديّ يدفع بهم إلى محراب حياة جديدة.
«المختار» كان الملاذ الآمن لـ«القدّيسة» التي رفضت الرضوخ لأعراف المجتمع وتقاليده، بل كان سلوكها ذاك ثورة على عادة الزواج المبكر والزواج القسري «هذا الصوت، هذا الرجل، هذا المختار، التقيت به أو أرسلَه لي القدر ذات خوف وحزن، ذات غربة، ذات يأس». ثمّ ألا نستطيع القول أيضاً إنّ «القدّيسة» هي نموذج للمرأة الحقيقية ذات الإرادة الحرّة القادرة على صنع القرار، لا الانصياع للقرارات ص144 . كيف تحوّلت من بنت سلبية، تباع وتشرى، إلى إنسانة تملك قرارها وتستطيع أن تقول: «لا»؟
«قلتُ: إنّها أفكار «المختار» التي زرعها فيّ قبل أن يذهب ويتركني، أقصد بعد أن عالجني من الخوف وانقطع عن زيارتنا».
«المختار» ليس بطلاً خرافياً كما في الميثيولوجيا، بل هو من جنس بشريّ، معادله ُالموضوعي في التعامل مع الموجودات والطبيعة هو تسخير الروح متجاوزاً الجسد الفاني للتخلص من رغبات الجسد.
ص136 ، «العالم ليس الروح وحدها ولكن الروح والجسد، فالروح تجريد عبثي وغير منطقي وبالتالي غير ممتع والجسد وحده أيضاً تجريد عبثي…».
إذا كان «المختار» هو شرارة الثورة التي أعلنت «القدّيسة» بموجبها ثورتها على الواقع ونمط حياتها، فإن «نوّار سعد» انطلقت من نمط حياتها لتغيّر اتجاه القدر نحو منعطف آخر أكثر أماناً، ذلك بالانطلاق من واقع طفولة مقهورة تقضيها هي وأمها في العمل في المزرعة لقلع البصل، وقد كانت متصالحة جداً مع ذاتها حين حدثتهم عن الجوع الكبير، ص148 ، «سأحدّثكم عن الجوع الكبير، ليس الجوع المقدّس إلى المعرفة… لا بل الجوع الهمجي الذي هو نتاج العوز والفقر والفاقة».
الأب لا يعمل إلا نادراً أو بأجرة يومية في غالب الأحيان. «نور» البنت الصغرى ترافقه في كلّ مكان، يصرف ما يجنيه من العمل هو وابنته «نور»، ثم يعودان إلى البيت وقد أعياه الخمر فينام طويلاً. ص152 ، «كان يعيش في عالم جامد خال من المسؤولية هادئاً ومسالماً وطيباً، وقد يثور فينقلب وحشاً أو كلباً سعرانَ، هذا إذا سُئل عن المصروف أو رفضت أمّي فراشه».
باختصار، حملت الأمّ و«نور» أعباء البيت بالعمل في قلع البصل بأجر بسيط وبعض البصل للأكل، وحين مرضت الأمّ ولم تعد تقوى على العمل، أعياهم الجوع بمعناه الحقيقي. تحوّل الجوع إلى فاقة، إلى عوز، باعوا محتويات البيت كلّها حتى لم يبقَ لديهم ما ينامون عليه. ص161 ، «إلى أن نمنا جميعاً على الأرض، مفترشين جوالات الخيش والملابس القديمة وأشياء قد نجدها هنا وهناك في ساحة المنزل وراء القطية، في الشارع، أو في بيوت الجيران». فتضطرّ الأمّ وبناتها للسفر إلى أهلها لأنها بحاجة إلى الرعاية.
نلاحظ من خلال قصة «نوّار سعد» أن الروائيّ سلك مسلك المنولوج الدرامي، بحيث لم نلحظ شاعريةً ما. صوّر لنا شخصية «نوّار سعد» كأنّها كانت في حلم طويل مزعج. حينذاك كان عمرها تسع سنوات.
أما فصل الرسائل التي تواصل أبطال الرواية من خلالها مع بعضهم، فإنّه يعيد إلى ذهننا أدب المراسلات، ولكن السياق مختلف، إذ إنّ الرسائل جاءت بعد أن تعرّفنا على عوالم كل شخصية على حدة، وعلاقتها بالآخرين ودرجة الصلة أو القرابة.
اكتفيتُ بهذه الشخصيات في الرواية لأنها كانت الحامل الأساس، الروائيّ اعتمد عليها في طرح أفكاره وموقفه مما يحدث في واقعه من فساد في نظام الحكم وتردّي الحياة الاجتماعية وما يعيشه الناس من فقر وعوز.
رواية «الطواحين» للروائيّ الكبير عبد العزيز بركة ساكن هي دراما حياتية في فصول، لكلّ فصل عنوان يبدأ الفصل به أو المقاطع، جسّد فيها حياة أبطاله وأهدافهم ورؤاهم المستقبلية من خلال إنشاء شبكة علاقات طيّبة بينهم، إذ إنّهم اشتركوا في الحلم ذاته، لأن طاحونة كلّ واحد فيهم تتلاعب بها الريح ذاتها.
في نهاية الرواية، يخبرنا بموت «المختار» والإشارة إلى أنّ «القدّيسة» ربّما ستعود إلى بيتها. وهنا يبقي النهاية مفتوحة على أكثر من احتمال، عن أنّ الزوج انتصر أم «القدّيسة» ستواصل ما بدأت به من فضح للمسكوت عنه.
التتمة في رواية «العاشق البدوي» للروائي عبد العزيز بركة ساكن لمعرفة مصير أولئك البشر الذين دارت بهم طواحين الحياة، فاختلط الحلم بالوهم.
أديبة سورية