معارك دمشق وحماة لفصل مسارات جنيف وأستانة
سعد الله الخليل
لم تأت التطورات الأخيرة بإطلاق معركة الهجوم على دمشق عن عبث، أو لرغبة تولّدت فجأة لدى قيادات الجماعات الإرهابية بغزو عاصمة الياسمين، والتي لطالما كان الاقتراب من سورها وأبوابها حلماً راود قادتها المتعطشين لدماء الدمشقيين، والساعين للوصول إلى مفاتيح سلطتها غاية الحرب التي أشعلوها على امتداد الجغرافيا السورية خلال السنوات الست الماضية، بكل ما أوتيت من قوة على الأرض وفي السياسة وصولاً إلى استجداء الأجنبي والدعوات الرخيصة لشنّ الحروب على بلدها، حتى أنها لم تترك أي وسيلة مهما بلغت قذارتها إلا واتبعتها لكسر الصمود السوري. فما الذي دفعها لارتكاب حماقة باعتراف الكثير من الأطراف الداعمة لتلك الجماعات والمناصرة لها بالهجوم على دمشق، وبناء عليه رفضت ميليشيا جيش الإسلام الموجودة بدوما، وصاحبة المصلحة الحقيقية بالهجوم على دمشق المشاركة في الهجوم، واكتفت بالدعم اللوجستي بالغذاء والذخيرة والسلاح لإدراكها بأن ما تقوم به جبهة النصرة لا يتعدّى كونه انتحاراً جماعياً قبل الخروج من جوبر والقابون، نظراً لقناعة أغلب الأطراف المطلعة على تفاصيل الأحداث في سورية بأن الخطوة لا يمكن أن تشكل تهديداً مباشراً لدمشق، يقلب الموازين المختلّة كلياً لمصلحة الدولة السورية بعد توسيع دائرة الأمان المباشرة حول العاصمة، وخاصة على المحور الغربي بإخراج داريا والمعضمية من دائرة التأثير الفاعل والتي يمكن أن تشكل خاصرة رخوة لدمشق في حال الضغط شرقاً، إلا أن هذه المعادلة لم تعد فاعلة منذ أكثر من سنة وبالتالي فإن أي هجوم على دمشق من الشرق أو الشمال لن يكون فاعلاً، بل سيساهم بتنظيف المتبقي من محيط دمشق عبر تحول تلك الجماعات المتمترسة في خنادقها بحالة الدفاع منذ سنوات، إلى مجموعات مكشوفة في حالة الهجوم، وهو ما يسهل على سلاحي الجو والمدفعية استهدافها بخسائر أقل من تكلفة اقتحامها، وبناء عليه فشل الهجوم وفشلت معه حملات إسقاط العاصمة معنوياً بمساندة حملات الإعلام القطري والسعودي، والذي فشل أيضاً بنيل استعطاف واشنطن، ليبدو الهجوم الأخير حشرجة موت لفصائل تأمل بمكسب معنوي لا أكثر على الأرض.
وبما أن نتائج الهجوم ميدانياً محسومة، فإنه لا يمكن إخراجه من سياقات عدة على الأرض، وفي السياسة أولها الرد السوري على الخرق الصهيوني للأراضي السورية بضربها صاروخ أرض أرض في العمق «الإسرائيلي» بغضّ النظر عن إصابته للطائرة أم عدمه، الذي لا يخرج الحادثة من دائرة الردّ المباشر وفق معادلة جديدة قوامها الردّ السريع وبالمثل، وسواء صدقت الروايات التي روّجت عن اعتراف قيادات ألقى الجيش القبض عليها بأوامر «إسرائيلية» بالهجوم على دمشق، أو لم تصدق فإن العامل «الإسرائيلي» واضح للعيان في الهجوم، خاصة أن الصاروخ السوري الذي ضرب عمق الأراضي المحتلة بحسب التسريبات العبرية، من الوزن الضخم ويحمل رأساً متفجراً يزن 200 كغ وهو ما دفع صحيفة يديعوت احرونوت العبرية لاعتبار الرد السوري على العملية «الإسرائيلية» «أثبات بنفاد صبر دمشق وبأن الضربة «الإسرائيلية» في سورية تجاوزت منع وصول الأسلحة المتطورة والكاسرة للتوازن من سورية إلى حزب الله، وإنما توجيه رسالة حادة الى صنّاع القرار في موسكو، بأنها لن تُوافق على أيّ حل سياسي في سورية بدون العامل الإسرائيلي»، وبالتالي فإن تزامن الهجوم مع مباحثات أستانة وجنيف أكد بأن المشهد المتصاعد لعسكرة الحل في سورية، رغم الادعاء بالعكس لن يترجم بتخفيض أو تقليص للوجود العسكري الأميركي في سورية بل كرّس صراع الأجهزة الاستخبارية ومؤسسة الرئاسة الأميركية، وأثمر بتنفيذ واشنطن ما أطلق عليه برنامج خشب الجميز للتسليح السري من وكالة الاستخبارات شمل نحو 80 مجموعة مختلفة من المسلحين في سورية، أبرز عتادها صواريخ موجّهة مضادة للدروع من طراز تاو، والذي ظهر في معركة ريف حماة بشكل جلي والتي سعت جبهة النصرة وأحرار الشام من إطلاقها السيطرة على جبل زين العابدين الاستراتيجي، لقطع طرق الإمداد للجيش السوري بين الشمال والوسط والجنوب، وخوض معارك على أشدّها ليست معارك كسر عظم فحسب، إنما معارك نفوذ وسيطرة في مسعى لخلق واقع يفرض على مفاوضات جنيف التعثر، ويقلّل من فرص تحقيق أي تقدّم فيها وفق رؤية فصائل أستانة التي انخرطت في القتال على جبهتي دمشق وحماة، لتغيير موازين القوى لمصلحة وفد المعارضة المفاوض في جنيف، ما يعني بالمقابل التزام دمشق بالقتال لإعادة موازين القوى الى حالها، وهو ما يحتم على خطط دي ميستورا والدول الداعمة له الفشل، ولذلك قدم الى الوفود اقتراحاً لتسهيل العملية التفاوضية يقضي بتقسيم جدول الأعمال الذي تمّ التوافق عليه في جنيف 4 إلى مجموعتين، الأولى تضم بندَي الحكم ومكافحة الإرهاب، والثانية تضمّ بندي الدستور والانتخابات لتسهيل البدء بالنقاش، والذي يبدو أنه محكوم عليه بالفشل بعد كشف رئيس الوفد السوري المفاوض عن علاقات تربط الدول التي من المفترض أنها راعية للمفاوضات قطر والسعودية بدعم جبهة النصرة، عدا عن تواجد قيادات الفصائل المقاتلة في جنيف كمفاوضين سياسيين تحت ضغط السلاح على الأرض، ما يعني انهيار وشيك للمفاوضات أو فصل مساري جنيف وأستانة تمهيداً ليقضي أحدهما على الآخر، بحيث ينفرد مسار من المسارين السياسي أو العسكري برسم خارطة طريق المفاوضات السورية.