رياض الريّس.. بطل «المسافات الطويلة»!

اعتدال صادق شومان

قد يكون رياض نجيب الريّس أبقى باب الذاكرة موارباً، أو شرّعه على مصراعيه، أو إنّه أخرج ما قد رآه مناسباً فقط في سيرته التي اتّسمت بالصراحة والتواضع والمشاكسة، وأيضاً الاعتراف بالخطأ.

هو الصحافيّ العنيد في دأبه المهنيّ، على ما قدّمته الصحافية السورية سعاد جروس في «حوار» مع الريّس، «صحافيّ المسافات الطويلة». في ولوجها معه «صندوق الذاكرة»، تضبط شواردها قبل أن تتوسّع ثقوبها ويتلاشى شريط الذكريات خلف غيهب النسيان، وتغور الصور وتبهت ألوانها.

على مدى خمسة أبواب، تجول جروس في أهمّ محطّات الحياة التي عاشها الريّس ومسارها ومراحلها، كاتباً وناشراً ومغامراً. ساقتها بأسلوب شيّق أنيق لا يخلو من بعض طرافة بالسرد، ارتقى بالعمل ورفع من لذّة قراءته والتواصل معه والاستمتاع بتفاصيله التي تعكس في مسارها وسياقها ما جرى خلال «مغامرات الريّس»، أو حتى ما مرّ عليها حينذاك من مواقف وأحداث.

كلّ ما دار في سريرته وكلّ ما حلم به وطمح إليه، في الصحافة والكتابة وعن منعطفاتها، في لحظة معاينته التحوّلات في خضمّ زمن إعادة تشكيل العالم، وما فعله، وما الذي ساهم في تطويره لصقل أحداث قصته من كونها ذكريات أو «اعترافات»، لتخرج إلى حيّز المذكّرات تسطيراً للأحداث ونتائجها. إلى جانب مواكبته النخب العالية من صنّاع المهنة وبطاركة الشعر، مكوّناً صداقات مع بعضهم، وحذِر مع آخرون له في هذا توصيفه الخاص على حدّ قوله: «لم يعرف منافساً يضاهي سعيد فريحة أستاذاً وصحافياً عملاقاً… وأجد نفسي قريباً من غسان تويني. كامل مروة علّمني معنى حرّية الرأي ومنحني فرصتي التاريخية حين أوفدني مندوباّ للحياة إلى فييتنام. لم أسترح كثيراً إلى مجلس ميشال أبو جودة، ولم أستسغ إحسان عبد القدوس. ولم أكن قريباً من نزار قباني. خليل حاوي لم يكن رجلاً اجتماعياً. جبرا ابراهيم جبرا اقتنع بي شاعراً، لكنّ صديقي يوسف الخال لم يقتنع بشاعريتي». ثم يعترف: «كانت همومي الشخصية هموماً سياسية وصحافية، أما موضوع الشعر فيطربني أكثر مما كان يعنيني أو يهزّني». ويشهد لـ«النهار» في «عصرها الذهبيّ» في الصحافة العربية لا اللبنانية فقط، و«دار الصياد» كانت منزله. أمّا جريدة «الحياة» فكانت مجاله الأوسع.

والريّس في صولاته وجولاته، في المسافات القريبة والطويلة، حرص ألّا تغيب عنه موهبة صحافية لمّاحة من جيل الشباب، فيتابعها ويحرّضها على بذل المزيد.

هو المولود في حضن الصحافة وعرينها الدمشقيّ، صحيفة «القبس» 1928 لمؤسسها الصحافي والبرلماني نجيب الريّس الأب، قبل أن يبدأ تجربتة الصحافية العريضة ويخوضها بمغامرات مديدة في تأسيس الصحف والمجلات، إلى جانب سيرة ثقافية كشاعر لديوانه الوحيد «موت الآخرين»، وتأسيس مجلة «ناقد» وجريدة «المنار» في زمن سيرة «الحداثة» الأدبية بداية أواسط الخمسينات، مع مجلتَي «شعر» و«حوار»، وافتتاحه في لندن جريدة «المنار» ثمّ «الكشكول»، أوّل مكتبة عربية في لندن، لتظهر «دار رياض الريّس» ومفخرته مجلة «النقاد» وسلسلة من الكتب الأدبية والسياسية والفكرية، مع غلبة واضحة لحضور الشعر والقصّة والرواية والنقد، إلى جانب الإعلان عن «جائزة يوسف الخال للشعر».

وقبل هذه «المسافات» كلّها، نهل الريّس الفتى من الثقافة الإنكلوسكسونية في مدرسة برمانا، ليملؤه الهوس بالالتحاق بجامعة إنكليزية، فاختار أو اختارته جامعة «كامبردج»، وهناك فطن للغة شكسبير ولعمق الثقافة الإنكليزية العريقة. مكوّناً علاقات صادقة ومعارف من النسيج الانكليزي، ليخلص إلى القول: «أحببت لندن ولكن يبقى عشقي لباريس أبدياً».

«الحوار» تقول عنه سعاد جروس ليس حواراً تقليدياً على عادت الحوارات من هذا النوع، بل تدفّق تلقائيّ نحو مسارت متشعّبة يرفده نتاج صداقة مديدة تختال فيها الذكريات المشتركة مع «شيخ الكار» في «داره» الرحبة، منتدى الكلمة والإصدارات والأعمال الفنية النادرة، من صور وملصقات، والملتقى لأبناء المهنة كلّ يغنّي مقاصده في مكان ضاجّ وصاخب بالأفكار والأصوات والمشاكسات و«مؤامرات» ثقافية منطوية على بعض «لؤم مشروع» في عالم الصحافة. وتبقى اللقاءات الأمتع تلك التي تكون في اجتماع «النقاد»، أو التفافاً حول ولادة كتاب من نوع الكتب «المثيرة للجدل»، التي تخلق اختلافاً بما هي فارق نوعيّ من دون إسفاف أو اصطناع إثارة أو ابتذال. إصدارت عدّة أثارت الشغب على الريّس و«داره»، أوقعت عليه «الحدّ الشرعيّ»، واضطربت بسببها رقابة الدولة فعمدت «دار الريّس للكتب والنشر» في مواجهتها إلى نشر كلّ ما يتّصل بـ«الإرث النهضوي»، أو ما يمكن تسميته بـ«التراث الوقائيّ»، في مقارعته تيارات الرقابة ومؤسّساتها الدينية والمدنية.

في «صحافيّ المسافات الطويلة»، نعاين أسماء غابت ووجوهاً رحلت، وصداقات انفرطت وأخرى صمدت. وتلاشت خبايا مشاريع بحيثياتها غير المعروفة في مهمة صحافية طويلة مشغولة بكتابة الوقائع. «الوقائع» كما عرفها رياض الريّس في «ماراتونه» الطويل متنقّلاً بين المدن يدوّن تفاصليها وأصواتها، خصوصاً تلك المرتفعة على قرع طبول الحرب، يغزوها مسالماً سلاحُه القلم، متجاوزاً خطوطاً حمراء، لم يسبق لقلم صحافيّ عربيّ أن وطأها. فعاين عن كسب الحرب الفييتنامية، وتشكوسلوفاكيا، واليمن، وهونغ كونغ.

غير أنه وقف على تخوم السياسة والأحداث في بيروت ودمشق مرتع طفولته وصباه، ولم يلج القضايا السياسية فيهما متجنّباً الخوض فيها إلا قليلاً على خلفية حمله انتماءً مزدوجاً، هويّته السورية التي لم يخرج منها إطلاقاً، والتي منعته عن تكوينه «اللبناني» هويته الثانية، ليبقى منشطر الهوى بين حال من الحنين الهوسي إلى المكان الأول، وعدم القدرة على اتخاذ القرار بالعودة إليه إذ عُطِبَتْ أعماقُه من جرّاء ذلك التمزّق والتصدّع اللذين منعا إعادة الوحدة والانسجام إلى ذاته المشطورة بتجاوز حدود انتمائه. وما ينتج عن هذا الوضع إحساس مفرط بالشقاء لا يدركه إلا «المنفيّون» الذين فارقوا أوطانهم ومكثوا طويلاً مبعدين عنه. وقد افتقد الريس بوصلته الموجّهة فاستعان بـ«العروبة» هوية ليجعل منها مركزاً لذاته، ومحوراً لوجوده، مبرّراً ذلك بصدمته الأولى أيام دراسته في مدرسة برمانا مع فئة من نسيج لبنانيّ يؤمن بالتمايز الطائفيّ، أربكت براءته المنزّهة طائفياً ودفعته إلى الهروب من «الواقع اللبناني»، متجنّباً الخوض في قضاياه السياسية، راسخة في ذهنه مقولة الأب نقولا يواكيم له: «عاشرت اللبنانيين أكثر من أربعين سنة، لا صرت منهم ولا رحلت عنهم». قناعة مستغربة من رياض الريّس ولا تصبّ في مصلحة إيمانه بمقولة «شعب واحد في بلدين» في موقف بعيد كلّ البعد عن مفهوم التعصّب إلى هويته السورية بقدر ما هو نرجسية فائقة تتعلّق بتكوينه الشخصيّ، دفعه إلى القول: «إن اسمي السوري أوضح من أن يُخفي انتمائي الأصلي»!

إلا أنه على رغم صدمة برمانا، يقرّ لها بكثير من تكوين خصائص شخصيته في معظم القيم التي يحملها ويؤمن بها ويستعيد أيامها بكثير من الفرح.

ويتحدث الريّس عن صدمته الثانية في جريدة «النهار»، الصحيفة «المؤسّسة المسيحية اللبنانية الصرفة» والتي «لا يُسمح لأحد بالتسلّل إليها»، ليواجهه السؤال مجدّداً: «ماذا يفعل هذا المسلم السنّي في النهار؟»، شخصياً لا أدري إذا كان حقاً هذا هو واقع الحال في «النهار»، بل أجد الكلام فيه مستغرباً يعزّز هذا الشعور الريّس شخصياً عندما رافق وفداً من مطارنة لبنانيين برئاسة البطريرك الياس الرابع بترتيب من صاحبها غسان تويني لتقديم العزاء بالملك فيصل، وعندما استغرب الريّس طلبه اعتبار الوفد مسيحياً وهو مسلم، فقال له تويني «ولو! أنت كاتب بارز في النهار!».

أما في المشهد «الدمشقي»، فيحرص رياض نجيب الريّس على سياسة «النأي بالنفس» وتجنّب الخوض في المسار السوري. طوال اغترابه يقف على مشارف حدود سورية من غير أن يجتازها، لسبب لم نتبيّن كهنه. هل هو اغتراب قسريّ أو أختياريّ؟ أو مهما يكن. قبل عودته مجدّداً إليها أواخر التسعينات ليكتشفها من جديد ويعوّض ما فاته في أن يعيش شبابه فيها. هناك اكتشف أنّ اسم والده نجيب الريّس لم يزل حيّاً في دمشق وقد أُطلق اسمه على شارع في منطقة «أبو رمّانة» حيث كان منزل العائلة، تقاسماً مع اسم الشاعر نزار قبّاني. «تقاسم» جفاه رياض الريّس. وفي دمشق انتعشت مجدّداً لديه فكرة إحياء جريدة والده «القبس». ولكن حلمه تبدّد مجدّداً من دون أن يستشفّ القارئ ولا رياض الريّس، أسباب عدم «الاستلطاف» الخفيّ بين دمشق وابنها البارّ، ليبقى سرّاً متوارياً في الأكمة وما وراءها.

مفارقات عدّة تصادفك في «حوار» الريّس، وتثير التساؤلات. مثلاً في الصدور الأوّل لصحيفة «المنار» الذي صودف تزامناً مع خطف طائرة «لوفتهانزا» الألمانية خلال توجّهها من إسبانيا إلى مقديشو، فتخرج الصحيفة بعنوان مثير للجدل «الخاطفون عرب»، ناشرةً أسماء منفّذي العملية، مرفقةً بعنوان آخر «هؤلاء هم قتَلَة الرئيس اليمنيّ»، قبل أن تتبنّى «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» في بيان، أنّهم «أبطال وشهداء عملية لوفتهانزا»، ما قد يفسّر عنوان «المنار» تحريضاً عنصرياً صريحاً على العرب، ومتنافياً، لا بل مستغرباً مع انتماء الريّس العروبيّ ودفاعه عنه!

ومن بين المواضيع التي أثارت ضجّة كبيرة، مقال آخر كتبه الريّس بعنوان «نواطير الخليج: حرّاس أمن أو طابور خامس»، يتحدّث فيه عن الجنود الباكستانيين المرتزقة الذين يعملون في جيوش الخليج، وعن العمالة الآسيوية الكبيرة المستخدمة في قطاعات مهمة في البلدن الخليجية، والدور المشبوه للجالية الإيرانية الكبيرة المنتشرة من عُمان إلى الكويت، في «نَفَس» لا يخلو من عنصرية دفعت حتى دول الخليج إلى الاحتجاج عليه من أجل تخفيض الريّس نبرته العالية.

هذا بعض من كتاب «صحافيّ المسافات الطويلة» في بعض محطّاته على اختلاف تنوّعها ومسمّياتها كما عاشها الريّس وسجّل الأحداث والانطباعات، صاغها وأودعها خلاصة تجربة مرّ بها، تشهد له، وعليه.

هل تجاوز رياض نجيب الريّس الخطوط الحمراء كلّها في مسافاته الطويلة وروى تاريخاً لم يُروَ؟ أم أنّ في الجعبة ما لم يأتِ أحدٌ على قوله بعد… وقد لا يُقال؟

تجدر الإشارة، إلى أنّ كتاب «صحافيّ المسافات الطويلة»، هو من إصدار «دار رياض الريّس للكتب والنشر» 2017.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى