إشكالية الأنا والآخر وأزمة الانتماء في رواية «عازف الغيوم» لعلي بدر

دعد ديب

من عنوانها، تشي رواية علي بدر «عازف الغيوم» من منشورات المتوسّط لعام 2016 برهافة بطلها ذي الاغتراب المركّب وشفافيته، فهو يجسّد نموذجاً للفنان ضحية الذات والآخر في وطنه. ذلك الموسيقي الذي يعزف على آلة «تشيللو» فتجنح به أحلامه عالياً ليواكب الغيوم هجرة وهطولاً يروي به روحه الراقصة على شغاف اللحن في محيط يعاني الجفاف والقحط الروحيّين.

وسرعان ما تصطدم هذه الشخصية الحالمة بذلك الواقع المضاد والقهري، حيث شراسة المتشدّدين وإهاناتهم عملَه، وفهمهم المبتسر للدين والحياة والعنف المتأتي من رواسب نفسية وتقاليد صلبة، حيث لا يتركون له متنفّساً أو خياراً آخر للحياة، فتضيق دائرة حصاره في وطنه ثم ما تلبث أن تلاحقه إلى منفاه أو بلدان اللجوء لتطبق بخناقها عليه وتدفع به لإعادة طرح أسئلة الوجود المحيرة: من أنا؟ ومن الآخر؟ ما الذي يجمعنا وما الذي يفرقنا: الانتماء إلى بشر؟ أم إلى جغرافيا؟ أم إلى عقيدة ما؟ تلك نماذج للأسئلة الكامنة في الفضاء النفسي لبطل العمل، ولعلها كانت الحافز للبحث عن جواب لها في عالم بديل، عندما يقرر الرحيل إلى الغرب حيث الحرّية والانفتاح وإطلاق العنان للموهبة والطموح. فيهاجر عبر قنوات مافيا المهرّبين نخّاسي العصر الذين تزدهر أعمالهم طردياً مع أزمات البشر وحصارهم الخانق. يهرب رغم حساسية الحوار الذي جرى بينه وبين والده يلخصه للابن بتجربة العمّ الذي سبق أن عانى من وطأة الحنين وشعور الذنب: «ستذهب إلى مكان بعيد لتظلّ تحلم طوال عمرك بالرجوع إلى مكانك الأول كما كان شأن عمّك»، معيداً إلى الذاكرة قول كافافيس اليوناني:

«وتقول لنفسك سوف ترحل إلى بلاد أخرى، إلى بحار أخرى، إلى مدينة أجمل من مدينتي هذه. لا شيء يا صديقي هناك، لا أرض جديدة ولا بحر، فالمدينة سوف تتبعك، وفي الشوارع نفسها التي همت فيها سوف تهيم إلى الأبد. فلا سفن تجليك عن نفسك».

دراما الاغتراب ما بين الوطن والمكان الآخر تأخذ مداها الأقصى بالمكان الموحش المخصص للمهاجرين في غيتوات لا تختلف كثيراً عن تقاليد القاع الذي يفترض أنهم هربوا منه! فهم يتشابهون في نمط حياتهم وطقوس سلوكهم وعاداتهم مع أولئك المتشدّدين الذي هرب منهم وبسببهم، وخصوصاً ما يتعلق بالتدخل في تفاصيل حياته من لباسه إلى صيامه وحتى إلى علاقته الحميمة بـ«فاني» البلجيكية وإخضاعه إلى عرفهم الخاص بحكم انتمائه إلى منظومة التصنيف الديني الذي لا يلتزم به.

المشهد البصري السينمائي البالغ الدلالة الذي يتكرر مع عازف التشيللو بين الوطن والمنفى هو قيام سدنة المعبد بتحطيم آلته الموسيقية أمام بيته مرة في موطنه ومرة أخرى في حيّ المهاجرين الأجانب في بروكسل من قبل جماعة مشابهة من متشدّدين محمّلين بعقيدة التطرّف الديني. هذه المطاردة الكابوسية التي تلاحقه أينما حلّ وحيثما ارتحل تجعله يحاول الانتماء بكلّيته إلى المجتمع الغربي، وتحرّضه أحلامه مرّة أخرى على الاندماج فيه ومع نشاطاته ليتهوّر في مؤازرة لتظاهرة لليمين المتطرّف تدعو إلى رفض الغرباء واللاجئين بتشدّد معاكس شوفينيّ وعنصريّ، ليصطدم من جديد برفض هذا المحيط له وتهشيم أضلاعه. ذلك أن هذا الطيف لا يرى فيه إلا غريباً جاء ليعتدي على رفاهيته ويقاسمه مكاسبه مهما أبدى من حسن النوايا. وهنا تأتي مفارقة أخرى حيث يبدو المتطرّفون القدامى في وطنه والذين كسروا آلته الموسيقية هم منقذوه هذه المرّة من التطرّف المضادّ. هو الهارب منهم على أمل الاتساع واحترام الآخر في ذاك البلد ليفاجأ بالتنوع في أشكال التشدّد والتطرّف.

تتداور هذه الدراما وتتخلّق أشكالها ليدور الفرد المعاصر في دوامتها فاقداً نقاط ارتكاز لثوابته النفسية والفكرية في أن يكون فاعلاً ومؤثراً في بيئة ما على هذا الكوكب. إذ إنّ المهاجر اليوم من غالبية مناطق الشرق هو أكثر الكائنات ضياعاً.

ولعلّ إعادة استحضار الفارابي ومدينته الفاضلة وقدرته على التأثير بالنفس البشرية من خلال اتّساق هارموني للنغم هو إيحاء ضمنيّ لرؤيته كنقيض للأصوات الناشزة معنى وتأويلاً. إذ لا يبدو علي بدر مبشّراً في روايته بأيّ بدائل للمعضلة التي يقاربها، كما أنه لا يرسم ظلالاً لأيّ أيدلوجيا معاكسة سوى حبّ الحياة النابضة بالعشق جسداً وروحاً. عنوانها غسيل الروح بالموسيقى لإزاحة السقط الفحمي من القلوب. الموسيقى التي تحوّل الكلمات المبهمة إلى المعاني. إذن، هي الحياة باتّساع معانيها النقيض لفلسفة التكاره واجترار عناوين الالغاء من مساحة الظلام، الحياة النقيض لكارهي الحياة تلك هي المعادلة المضادة بأبسط ما يكون.

كما لا ينسى علي بدر توجيه سهام نقده تجاه ما يسمى بالحثالة أو الطبقة الرثة التي تتلوّن وتتشكّل بحسب الظروف. هذه الفئة التي تسيّدت المشهد اليوم هي ذاتها التي لطالما هلّلت للدكتاتور بالأمس وكانت أوّل المهللين للواقع الجديد بعد الاحتلال، وهذا الإقرار بواقع الاحتلال واضحة في عمل علي بدر، في زمن فيه من اختلاط المعايير والتباس المفاهيم بين الاحتلال والتحرير.

«عازف الغيوم»، الرواية التي لم يتجاوز عدد صفحاتها مئة واثنتي عشر صفحة، بدت محتفية بمعناها وغناها وجاءت بعيدة عن الحشو والتكرار ومتجنِّبة الإطالة. كما نأت عن التكلّف والافتعال بلغة سلسة وشيقة في آن. معتمدة على كثافة الفكرة للتأكيد على أن أهمية المادة السردية بالاحتشاد النوعي لا على الكمّ وازدحام الأوراق.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى