«داعش» لم تسقط من السماء … والمطران نداف كذلك

راسم عبيدات ـ القدس المحتلة

«داعش» ليس بالكائن الخرافي او الأسطوري، ولا سقط علينا من السماء، او تمّ استيلاده وتخصيبه في الخارج، بل هو ابن هذه البيئة، وموجود في سياقاتنا الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية، الفكرية، التاريخية والأمنية، «داعش» وليد فكر فقه البداوة، وليد فكر السجون والكهوف، طورا بورا وغوانتانامو، وليد لإحدى القراءات الإسلامية التي تكفر ولا تعترف بغيرها من المذاهب والمدارس الإسلامية والديانات الأخرى، «داعش» ه وليد فشل الدولة العربية الحديثة في إقامة مجتمعات المواطنة الكاملة والعدالة الاجتماعية، «داعش» يكون حيث يكون الجوع والفقر والتخلف والجهل، وسيادة ثقافة الشعوذة والأساطير والخرافات، وينمو في مجتمعات القهر والفساد والاستبداد، وهو نتاج الديكتاتورية والقمع وغياب الديمقراطية والإقصاء وانسداد افق العمل السياسي والديمقراطي وعدم المشاركة في صنع القرارات وغيرها، و«داعش» هناك من يحتضنه ويوفر له كل مقومات البقاء والقوة، ويوفر له أيضاً الحواضن والدفيئات ويمدّه بالمال والسلاح والرجال، ويجنّد له مشايخ ورجال إفتاء، ويفتح له ابواب الاعلام بكلّ أنواعه على مصراعيه لكي يبث وينفث سمومه، ويقيم له المؤسسات الدينية والتعليمية والإغاثية، ويخلق ويوجد له بنية تحتية ومؤسساتية، ويستخدمه لخدمة اهدافه واغراضه ومصالحه.

لذلك لا احد يقول بأن «داعش» ليس وليد مجتمعاتنا او غريب عن عاداتنا وتقاليدنا أو مستنبت ومخصّب في مصانع غربية، بل هو مولود ضاربة جذوره في بيئتنا، الغرب والاستعمار يلعب دوراً داعماً في تمدّده وتوسعه والرفع من شأنه وتسمينه وتقويته، لكي يستفيد منه في مرحلة معينة في صراعاته ومواجهاته الخادمة لمشاريعه وأهدافه في المنطقة.

هذا ما حدث مع ما يُسمّى «الجهاد العالمي»، حيث استغل الأميركان حركة «طالبان» وجماعة «القاعدة» في الحرب ضدّ الاتحاد السوفياتي سابقاً في أفغانسان، مشيخات النفط والخليج، وبالذات السعودية، موّلت تسليحها ومدّها بما سُمّيَ الأفغان العرب، والرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان أسبغ عليها في تلك الفترة لقب «مقاتلي الحرية»، وبعد ذلك، وفور انتهاء المهمة والدور تحوّلت الى جماعة إرهابية، واليوم السيناريو نفسه يتكرّر مع «داعش» حيث في الحرب الباردة العربية، هناك من يستغلّ ورقته في حربه ضدّ ايران وحزب الله والحوثيين في اليمن والبحرين…الخ، وهناك من يستغلّ هذه الورقة كالأتراك ضدّ سورية من اجل إسقاطها، وكذلك يلعب الأميركان بهذه الورقة من أجل تنشيط مصانع أسلحتهم وزيادة معدلات نموهم الاقتصادي وتدمير المجتمعات والدول العربية بنية ومؤسسات وجيوشاً خدمة لمشاريعهم وأهدافهم ومصالحهم في المنطقة…

اما المطران المتصهين ندّاف، فليس من الغريب في ظلّ واقع مشوّه بل مغرق في التشويه، ان يخرج لكي يدعو العرب المسيحيّين في الداخل الفلسطيني 48 إلى الانسلاخ عن قوميتهم لصالح القومية الآرامية، والاندماج في ما أسماه «المجتمع الإسرائيلي» والانخراط في جيش الاحتلال، في ظلّ وضع ننشغل فيه نحن الفلسطينيّين في الصراع والمناكفات، ما بين تجزئة وتقسيم وتفتيت الوطن والمشروع الوطني ما بين غزة والضفة والقدس والشتات والداخل الفلسطيني، وفي ظلّ ثقافة عربية منذ عهد الاستعمار او الانتداب على فلسطين واتفاقيات سايكس- بيكو هي ثقافة الاستعمار، حيث دخلت تلك الثقافة العربية بما فيها الفلسطينية في دينامية التأقلم والتكيّف والتبجّح والتباهي بالخاص والقِطري على حساب القومي، وقبل ان نتحدث عن الظاهرة «الندافية»، والتي يمكن ان تكون هامشية أو محدودة، لكنها في ظلّ ما يحدث ويحصل في الواقع العربي، حيث يتقدّم الفكر الانغلاقي والتكفيري والثقافة المشبعة بالتطرف والعنصرية، والدعوات المذهبية والطائفية والتحصّن والتحلّق حولها، وكذلك تغييب العقل والفكر والحجْر عليهما لصالح فقه البداوة وفكر الكهوف والسجون والكتاتيب والمدارس المتشدّدة والمذاهب الإقصائية وغيرها.

لا غرابة إذاً في وجود الفكر «الداعشي» والظاهرة «الندافية»، فمثل هذه الظواهر والحركات في ظلّ بنية ذهنية عربية قاصرة وفي ظلّ ديناميات سلوكية وثقافية ووعي عربي وفلسطيني مشوّه، وغير محصّن ومحمي، فإنّ ذلك حتماً سيشكل حاضنة وتربة خصبة لنمو ووجود مثل هذه الظواهر والحركات، ويستحيل علينا بفكر ووعي وسلوك مشوّه ان ندافع عن مشروعنا القومي والعروبي، الذي يتعرّض لحرب شاملة من الداخل من قبل قوى تغلّب الأيديولوجي على الوطني، وتعلي مذهبيتها فوق وطنيتها وقوميتها، وكذلك قوى خارجية استعمارية مستفيدة من وجود مثل هذه الظواهر والحركات تسمنها وتحتضنها وتزوّدها بكلّ مظاهر القوة، لكي تخدم مشاريعها ومصالحها الاستعمارية، ولكي تفعل فعلها في تدمير المجتمعات العربية، وتعمل على تفتيتها وتشظيتها وتذريرها.

في مرحلة التراجع والانهيار، وغياب دور رجال الفكر والنخب السياسية والإعلامية والأكاديمية، وعجزها عن التصدي للفكر المذهبي والطائفي، وما تبثه وتنشره تلك الحركات الإقصائية من أفكار هدامة وتدميرية، لا غرابة ان نجد من يدعون إلى بعث روح القوميات الآرامية والكنعانية والفنيقية وغيرها، وكذلك اليوم نتحدث عن دعوة لمطران متصهين من اجل تذويب الفكر القومي والعربي وسلخ المسيحيّين العرب عن قوميتهم لصالح قومية مصطنعة، ولكن نحن في مرحلة الضعف والانهيار وتشوّه الوعي وفقدان البوصلة، وغياب المفكرين، والكفّ عن إنتاج فكر ومفكرين، فإنه ليس من الغرابة ظهور نداف فيما المحيط كله يرقص على إيقاعات الطائفية المرعبة: سني شيعي يزيدي أشوري- كلداني شافعي مالكي حنبلي – روم أرثوذكس لاتين موارنة دروز سريان لوثري أرمني…

إذن هي النتيجة الطبيعية والمنطقية للتكيّف والتساوق الواعي أو غير الواعي مع البنى السياسية والجغرافية والسكانية والثقافية التي تفرضها قوى الهيمنة الاستعمارية على المجتمع، وما تعنيه في النهاية من تشكل الحاضنة لمختلف الظواهر الشاذة المناقضة لمصلحة الأمة أو الشعب.

وبلغة الكاتب والمفكر نصّار ابراهيم «وزير داخلية إسرائيل ساعر، يبذل المستحيل لكي تصبح «إسرائيل» بأيديولوجيتها الصهيونية بوتقة صهر عملاقة سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً ولغوياً… ليهود العالم من أمم وثقافات مختلفة وسياقات تاريخية ولغات مختلفة… وفي ذات اللحظة يوظف الأكاديميا الإسرائيلية لكي تبرهن له بأنّ الآرامية هي قومية لكي يغري مئات «المسيحيين الفلسطينيين» بالخصوصية، والأهمّ بالامتيازات بأنهم قومية خاصة… وهي ذات السياسة التي اتبعت تجاه الدروز والبدو الفلسطينيين، وبعد غد قد يقترح ساعر نفسه وجود قومية مقدسية، وقومية غزاوية، وقومية خليلية… وغيرها… فلا يستغربنّ أحد ذلك إذا ما تنافخنا شرفاً وفخراً بهذا الانتماء الضيّق على حساب فلسطين الوطن والقومية والعروبة»، وكذلك ألسنا نحن بدون استثناء حتى في القوى الأكثر تقدمية وثورية من نقدّم انتماءاتنا العشائرية والقبلية على انتماءاتنا الحزبية، والإنتماءات الحزبية على الانتماءات الوطنية؟

Quds.45 gmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى