مختصر مفيد تركيا ست سنوات حرب ورسوب في النهائيات

خلال سنوات الحرب على سورية شكلت تركيا المحرّض والمشغّل والحامي ورأس الحربة والخط الخلفي والجبهة الأمامية في آن. كان على السعودية وقطر تقديم المال والإعلام وعلى أميركا والغرب تقديم التغطية الدبلوماسية وشراكة المخابرات، والباقي كله صنع في تركيا. فالأخوان المسلمون كعصب داخلي سوري يُعتمد عليه حزبياً في تنظيم المواجهات الشعبية ولاحقاً العسكرية مسؤولية تركية، وتركيب الواجهات المدنية واستضافتها وتنظيمها ورعايتها ورسم سقوفها السياسية من مجلس اسطنبول إلى ائتلاف الدوحة، رعاية تركية، وتنظيم القاعدة بجناحيه الأصلي والمنقح، «النصرة» ثم داعش، الممر تركي والملاذ تركي والإمداد تركي وبيع المسروقات نفطاً وآثاراً تركي والحماية السياسية والقانونية تركية. وعندما تشتد النار تدخل النار التركية وعندما يحضر حلفاء سورية تحضر في مواجهتهم تركيا.

حجم الاستثمار التركي المادي والمعنوي في الحرب على سورية هو الأكبر، والارتباط الوجودي لمشروع الحلم الاستراتيجي بمستقبل سورية تركي جسّدته العثمانية الجديدة التي كانت قد أنجزت ترتيب الساحات في فلسطين ومصر وتونس وتستعد في ليبيا واليمن وكان ينقصها سورية كي يسقط الأردن ويفتح باب شراكة في العراق. وعلى مستوى الجيوش لم يتورط جيش من دول الحرب على سورية بدخول الحرب مباشرة ضد الدولة السورية وحلفائها إلا الجيش التركي، وكل قادة دول الحرب الذين تشاركوا مع الرئيس التركي وحزبه في العداء للرئيس السوري لم يصلوا الحدّ الذي بلغه الرئيس التركي في وعوده بإسقاط الرئيس السوري وأحلامه بالصلاة في المسجد الأموي وصولاً للقول إن أحدنا يجب أن يرحل أنا أو الرئيس السوري .

لا تقل السعودية و إسرائيل تضرراً عن تركيا من عودة سورية معافاة برئيسها وجيشها وتحالفاتها وخياراتها، لكن لكل منهما قضية أولى تشغله وتتقدم على القضية السورية. فالسعودية تعيش تداعيات حرب اليمن عليها ومخاطر استمرارها كما تعيش أوهامها ورهاناتها، و إسرائيل تعيش هاجس حزب الله، وحتى عندما تنظر إلى سورية لا يفوتها وضع مكانة حزب الله فيها، وفي حربها في مقدمة الأولويات. أما تركيا فكيفما أدارت وجهها ستجد لعنة سورية تلاحقها، في ملف علاقتها بموسكو تحضر سورية وفي علاقتها بطهران العقدة هي سورية وفي العلاقة بواشنطن صارت سورية محور تصادم بعدما كانت جسر تلاقٍ، وكل من روسيا وأميركا وإيران هي الدول المحورية في العلاقات السياسية والاقتصادية وصاحبة القدرة على التأثير الاستراتيجي في مستقبل مكانة تركيا ودورها.

فشلت تركيا في مشروع إسقاط سورية أكثر مما فشل كل حلفائها، وفشلت في وضع خطة بديلة لمّا تيقنت من الفشل بالخطة الرئيسية. وقد استغرقت ثلاث سنوات بعد سحب واشنطن أساطيلها التي جردتها للحرب على سورية، حتى اكتشفت أنها تحارب وحدها بلا غطاء الناتو الذي دعته لنشر صواريخ الباتريوت لإقامة المنطقة الآمنة وأحجم، ولم ترتدع ولم تفهم المعادلات. وعندما تصادمت مع روسيا ورفض الناتو ملاقاتها لخيار المواجهة بقيت تناور وتبحث عن كيفية الهروب من الحقيقة. ابتكرت المتاجرة بقضية النازحين واستخدامهم قنبلة ديموغرافية بوجه أوروبا وابتزازها مالياً وسياسياً، واستعملت نفوذها في داعش والقاعدة لنقل التحدّي الأمني إلى أوروبا وربطه بالنازحين أملاً بنيل ما تريد تحت شعار حماية الأمن والديمغرافيا الأوروبيين طريقه دعم الجدار التركي فأخفقت.

صار شعار العداوات صفر مع الجيران، كنظرية للجغرافيا السياسية لداود أوغلو مسخرة بعد السياسات التي تقاسمها أوغلو مع الرئيس رجب أردوغان، وصارت تركيا عدوة لروسيا وأميركا والأكراد والأرمن وإيران والأوروبيين. وإذا استدارت لنظريتها الجديدة التي أطلقها أردوغان عن مواجهة خطر حروب صليبية، لا يعود ثمّة ما يفصل أردوغان وحزبه عن الانضواء في تنظيم القاعدة، الذي يعلن قتاله للصليبيين ويضيف إليهم اليهود نظرياً ويستثنيهم وينسق معهم، كما يفعل أردوغان عملياً.

تحوّلت تركيا حزب العدالة والتنمية إلى دولة أزمات في عالم مأزوم لا يتحمّل المزيد، وبدأت تتوضح صورة التفاهمات الدولية الجديدة بإشارات محورها تخطّي الفيتوات التركية، كما يشير التفاهم الروسي الأميركي على أولوية الدور الكردي في الأزمة والحلّ في سورية على الدور التركي، أو اللغة المشتركة الجديدة للمسؤولين الروس والأميركيين حول اعتبار الرئاسة السورية شأناً سورياً خالصاً، ما يعني أن مواصلة التمرد التركي على المعادلات المستجدّة لن ينتج لها المزيد من القوة بل المزيد من العزلة، فالدولة التي تظنّ أنها تهدد العالم بانسحابها من سورية هي الدولة التي كانت تهدد العالم بقدرتها على غزو سورية. وهذا التبدّل بكل ما ينطوي عليه من ابتزاز يعبّر عن الإفلاس، فالدول الفاعلة تصير حاجة وضرورة للآخرين، بما تمثل من قدرة بناء جسور وبناء جدران في آن واحد، بينما تركيا نجحت في تدمير الجسور ولم تستطع بناء جدار واحد.

تغيّرت إدارة الرئيس باراك اوباما التي ربط بها أردوغان وحزبه التباعد الأميركي التركي، وجاءت إدارة الرئيس دونالد ترامب الذي بشّر بعلاقات طيبة مع تركيا ودعم الحكم فيها وصولاً لتسليم الداعية فتح الله غولن. ولما تسلّمت الإدارة مهامها وواجهت الحقائق لم تجد لديها ما يستدعي تقديم التضحيات ولا الهدايا لحكم أردوغان، فالحاجة لغطاء للوجود في سورية وللحرب على داعش تفرض أولوية الأكراد، والحاجة للتنسيق في جهود القوى الفاعلة والوازنة في سورية تبدأ من موسكو، وفي المفردات الكردية والروسية لا وجود لدور مشترك مع تركيا ثبتت الحاجة إليه وظهرت في الواقع إنجازاته، فموسكو التي بذلت الكثير لتبييض تركيا وإدماجها في خيارات جديدة فقدت الحماسة لبذل المزيد بعد الخداع واللعب على الحبال والتذاكي والعنجهية. وهي خصال رافقت مسيرة العلاقة الروسية التركية.

لا يبدو بعيداً أن تكون واشنطن وموسكو في طريق التفاهم حول سورية، بعد تبني خطاب موحّد تجاه مسألتين حيويتين في سورية، دور الأكراد ومستقبل الرئاسة السورية، والكلام صار تقريباً هو نفسه عن الرئاسة أنها ملك الشعب السوري، والأكراد مكوّن رئيسي من مكوّنات الشعب السوري لا يمكن إقصاؤه عن مسارات الحل السياسي ولا الحرب على الإرهاب. وهم وفقاً لتحقيق أجراه ألمع صحافيي الواشنطن بوست ديفيد أغناسيوس قبل أسبوع، المجموعة المسلحة الوحيدة الوازنة التي تعاملت معها واشنطن ودعمتها، ولا تتبع قيادتها عملياً لتنظيم القاعدة، وهم الجهة الوحيدة بين الفصائل المسلّحة التي ليست أولويتها إسقاط الدولة السورية بل التوصّل لحل سياسي تفاوضي، يضمن مكانة سورية في الحرب على الإرهاب والباقي طموحات وتطلعات تفحص واقعيتها على طاولة المفاوضات، ولا يزيد الإقصاء إلا التشدّد.

تركيا تعيش كما سورية الربع الأخير من ساعة الحرب، ولا فارق بين أن سورية تتجه نحو تنفس الصعداء وتركيا تذهب لتعيش الكابوس الذي أرادته لسورية، بما في ذلك العزلة والتصدّع والتآكل. وهذا ما لن يرضاه الأتراك من رئيسهم، وسيكون لهم معه، بانقلاب ومن دون انقلاب، وبصلاحيات ومن دون صلاحيات، الكلمة الفصل. .

.

ناصر قنديل

ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى