خبرٌ عاجل…
نصار إبراهيم
هنا عند شرق المتوسط وجنوبه… هنا فلسطين… هنا خبر عاجل… نحن لا نختار أحزاننا ونذهب إليها… فلا حاجة بنا لذلك… لأنها تأتي إلينا بنفسها… فتلازمنا… وتحاصرنا من الجهات كلها … صعوداً وهبوطاً… صمتاً ومقاومة.
هنا.. عند شرق المتوسط أو جنوبه يداهمنا الحزن على شكل خبر عاجل فيفيض في صمت الليل كما المطر… يأتي من أفق رمادي مشرعٍ على طفولة تراوغ اللحظة لتبقى على قيد الحياة… يأتي حين نتوهّم أنّ بمقدورنا أن نخدع معادلات الحياة بفخامة الكلمات الصفيقة…
هنا للحزن الفلسطيني طريقته في الحضور… إنه يأتي دائماً على شكل خبر عاجل… يلوح في المدى البعيد كالقمر على ضفائر الليل الشجيّ… يأتي على شكل أقدام طفل ترتعش في شهر كانون على بقايا دمار عظيم… أو على شكل الفقد في عيون أمّ… أو ربما يكون لحظة شك في يوم غد… إنه يأتي هكذا على شكل خبر عاجل يزحف على شريط الأخبار عن شهيد كان يلقي علينا تحية المساء قبل لحظات… أو على شكل أسير يعانق قضبان زنزاته في عتم الليل وينتظر… أو على شكل زيتونة تحترق، أو على شكل حنّونة تقاوم وحدها… أو ربما على شكل مؤتمر فاشل أو خطاب بائس حول قضية ساطعة…
هي الأحزان عندنا هكذا شأن يومي عادي… تحضر على شكل خبر عاجل يومض على شريط أحمر أو أزرق «أسفل» جهاز التلفزيون… يأتي كفنجان قهوةٍ مُرّةٍ في الصباح… فيما ومضة الفرح استثناء عابر… فكم هي معادلة أفراحنا وأحزاننا غريبةٌ وملتبسة!
هي حياة الفلسطيني هكذا… مجرد أخبار عاجلة…
ومع ذلك تبقى المسافة شاسعة بين الأخبار الفلسطينية العاجلة التي تمضي هناك في «الأسفل» على شريط الأخبار بطعم الحزن والبطولة، وبين الكلمات الصفيقة التي تحتلّ نشرات الأخبار الرئيسية هناك… في «الأعلى»…
في الخبر العاجل تمتزج دماء الشهداء من الانتماءات والتنظيمات والفئات كلها… فيما الساسة «الأحياء» في نشرات الأخبار الرئيسية يقيمون المتاريس ويطلقون النار عشوائياً على الجميع وعلى أقدامهم كالحمقى…
في الأخبار العاجلة هنا وهناك… يختلط ركام البيوت التي حرثتها قذائف الطائرات أو الدبابات أو الجرافات لا فرق… فيما القادة والقوى السياسية في نشرة الأخبار الرئيسية مشغولون بإقامة خطوط التماس او مناطق الحرام ما بين دمار ودمار… يحدث هذا فيما البسطاء هنا وهناك يتقاسمون أحلامهم ودمارهم وعنادهم وأحزانهم وبقايا خبزهم من دون ثرثرة.
هنا… في الخبر العاجل غزة… تأتيها الصرخة من القدس أو المخيم أو أبعد… فتنهض بعينيها تقاتل…
هنا… في الخبر العاجل الضفة… تأتيها الصرخة من غزة وهي تجالد الهول… فتنهض بدمها تقاتل…
يحدث كلّ هذا فيما الساسة على نشرات الأخبار الرئيسية ينصبون مسرحاً عبثياً من لقاءات ومصالحات ومشاورات ومناكفات… فتفتح فلسطين عينيها دهشة وسخرية ووجعاً.
في الخبر العاجل يتقاسم الزنزانة أسرى ومعتقلون هم قوس قزح فلسطيني يتلامع في أفق المقاومة الممتدّ ما بين نكبة ونكبة… يتقاسمون اللقمة والسيجارة والنجمة وبقايا قهوة وذكرى عائلة وضوء القمر الساقط من بين القضبان… يتقاسمون القهر والقمع وصرير باب الزنزانة الحزين وصرخة السَّجّان والأمنيات البسيطة… فيما هناك… ليس بعيداً في «الأعلى» على صدر صفحة الأخبار الأولى يتبادل الساسة والباعة وخبراء الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان التقارير والصور التذكارية والثرثرة في آخر مؤتمر ثم يتفقون على موعد جديد لمؤتمر آخر في العام المقبل.
هنا في الخبر العاجل ناس بسطاء يفترشون الوطن كحقل القمح وأشهى… لا يجيدون الكلام وفن الخطابة… لكنهم يجيدون فنّ الانتماء والبقاء والوفاء والمقاومة… وحين يجِدُّ الجدُّ يكونون أول من يدخل دائرة الاشتباك وأول الشهداء… فيما هناك في «الأعلى» في نشرة الأخبار الرئيسية يبدع الساسة والقادة فن الكلام وفن الخطاب وفن الغياب وفن الفساد… وحين يجِدُّ الجدُّ يكونون أول من يغادر دائرة الاشتباك لجهة معلومة أو مجهولة.
هنا… عند شرق المتوسط وغربه وجنوبه… هنا في فلسطين… يمضي شريط الأخبار العاجلة في «الأسفل» كعادته… ألم عظيم واحد، دمار عظيم واحد، سجن عظيم واحد، وحقل شاسع من الشهداء ممتدّ على مدى الوطن والوقت… فيما يتذاكى الساسة والقادة والتنظيمات هناك في «أعلى» عناوين نشرة الأخبار الرئيسية وهم يختلفون على ألف خارطة لوطن لا يتجاوز حبة قمح.
أيّ حزن فاجع هذا!؟
في النهاية.. يقول الخبر العاجل: رغم الحزن الفاجع… فإنّ قدمين عاريتين لطفل فلسطيني برؤوسهم… وابتسامة شهيدِ باسل تشبه إشراقة حنونة تعادل وطناً ليس لهم…