ما بين نبوءة كافكا واستشرافه للواقع… تصاوير أكثر فداحة!

النمسا ـ طلال مرتضى

إنها جدلية الحكاية الغائبة، أو الإفراط في الحساسية تجاه التعالق مع الأشياء الدقيقة الحواس. ولعلّ ما يدور في فلك القصة من ألِفها إلى يائها هو التوجّس من الآخر.

«الانمساخ»، رواية كافكا، صادمة من الحرف الأول في مستهلّها البسيط والذي يُدخلك في إيهامٍ متعمد، ويدلف بك إلى نواصٍّ غير تلك الذي بدت لك، ثم يقودك بعبثية ويشدّك بقوة جاذبة، فتحفزك سطوة هذ التحدي للقبول به قسراً.

هذا الاستطراد المجاني يغيّر تماماً ملامح المتلقّي ووجهته، ويجعل وجه الحقيقة «مسخاً» بفعالية السرد الذي يشبه قبض الريح. وهكذا تصبح الكلمة أشدّ وقعاً ـ وبعيداً عن رخامتها وحضورها ـ ومن لهج التيقن بأنها: كما أرادها كافكا… «الفأس التي تكسر البحر المتجمد فينا».

كان هذا يكفي لأن ندخل بكلّ ممكناتنا للغوصِ حد الضياع بعد اختفاء مفاتيح السرّ التي دُفنت مع كافكا ذاته. ومن باب كسر الدهشة بعد مرور العتيّ من السنوات، ما زال قارئ كافكا يعيش ذلك الانفصام الرهيب المخيف الذي عاشه تحت قبل قرن من الزمن.

أنها صدمة كافكا حين ذاك، صدمة الشعور بالسحق، فقد تلمس أقنعة الرياء حتى من أقرب المقرّبين وهذا أشد أنواع القصاص إيلاماً.

«أن يستفيق امرؤ ليجد نفسه حشرة ضخمة!».

لم يكن حلماً مزعجاً، بل كابوساً واقعياً، فإن هذه الصورة وحدها تكفي كاستعارة تدل عن واقع يعيشه تحت كنف التسلط الطبقي والنبذ، اي كذبة الحياة.

الشعور بالذنب والحساسية المفرطة لديه ذهبا به بعيداً وبكامل قناعة بأنه لن يستطيع تغيير أي شيء لمجرد الحاجة إلى التغيير، وهذا ما عكس الأمر سلباً. فتصويره الواقع ليس أقلّ فداحة من السلّ الذي تغلغل في جسده، ليتركنا نضع تحت هذا البند نقطة علامة لصالحه، فلنقل أي إيثار يتلبس الانسان حين رسم بعناية وجع الكون وتناسى وجعه؟

كان لهذا التحول الغريب المفاجئ الذي حدث وكمّ المعاناة ومحاولة التأقلم مع شكله الغريب الذي أصبح عليه.

كم هو مقدار الصعوبة التي تواجه حشرة بهذه الضخامة لتنهض من الفراش وهي مستلقية على ظهرها، عندما تكون في حالة من العجز التام، هذه الحشرة تحاول مراراً وتكراراً وبكل قواها تحريك أطرافها المتعدّدة من دون جدوى لاستعادة توازنها… لكن، ماذا يقصد كافكا؟

بالتأكيد لم يكن يعنيه مطلقاً ان يصف استيقاظ حشرة مقلوبة على ظهرها تحاول تصحيح تموضعها… إنما هو ترميزٌ لطبيعة الإنسان الذي يشعر بالعجز ولا يريد الاستيقاظ مواربة وموارية.

كان يكفي أيّ منّا تلمس الحالة والإيغال في بلادة المشهديات القائمة ـ الحروب، الظلم، الجوع، والتباين الطبقي وغيرها من الويلات التي عايشها هو ـ كمفرز لا يمكن تجاهله على الارض… لأقول لِكافكا، حسناً فعلت عندما لملمت أوراق خيبتك وغادرت مبكراً غير نادم. فقط لأن التصاوير التي تركها حينذاك على دفاتر ملاحظاته، لا ترتقي بالمطلق إلى فظاعة ما نحن عليه في الوقت المعاصر.

في قصته «الانمساخ» يذهب كافكا في حالة كاملة من الوعي وحالة كامنة في اللاوعي، نحو التذكير بفداحة الحياة وبؤسها، فتستشف كل هذا من لحظة البداية.

على مرِّ السنوات الطويلة كان كافكا يحتاج إلى قارئ عليم متمكن تماماً ليسقط التصاوير ويمايز ألوانها المتباينة، فقارئ اليوم لجوج حدّ الغبن. وهذه فعالية تالية نعيشها في منجز كافكا الغارق في وجع الانسانية، القارئ الذي يتلمس ومنذ السطور الاولى لمنجز كافكا، بأنه يتخبط في مستنقع من الرتابة وأنّ أبطال مرويته الأربعة مكبّلون بقلة الحركة وقليلاً ما نتلمس حالة حراك داخل النص ـ صمت النص هو الحاضر ـ ما يجعل القارئ متململاً في بعض المواطن. ورغم التفصيل المرهق فذلك لن يقلل من التركيز على متابعة السرد والرمز، السرد المبكي المضحك أو باللغة العصرية التراجيدي ـ الكوميدي القاسي والرموز.

تبدو المحاولات يائسة عند استحالة تحقيق الأمنيات، ولا تقتصر المأساة في العجز عن التكيف بل عن مواجهة الواقع.. العلاقات المادية، والمشاعر الباردة ودور العائلة السلبي، كان يحرك أطرافه من دون جدوى. المظاهر البرجوازية المخاتلة، الحفاظ على الخدم رغم سوء الحالة المادية، التسلط البيروقراطي، كبير الموظفين، إما الشفاء ـو الموت، الطبيب والحداد.

إذن، فالموت كان هو الحل الوحيد لمواجهة كل هذه الامور المرعبة.

السؤال الأهم في نهاية المطاف، كون كافكا قد أصبح نظرية ومدرسة بحدّ ذاتها. هل كان يستشرف أحداث المستقبل حين صوّر واقعاً نعيشه الآن بكل وأدقّ تفاصيله وذلك قبل عقود من السنوات؟ أم هي نبوءة كالتي اقترفها المتنبّي، نبوءة بلا وحي والتي أوصلته إلى سدّة المقال، أم هي «الحساسية المرضية» كما سمّاها ماكس برود، أسئلة برسم الحكاية، يتناولها قارئ كافكا من غير فكاك.

بعيداً عمّا سأقول، لماذا جهد العالم كله على التكتم إلى ميول الرجل السياسي، هل كان «أحمر» بالفطرة ولهذا حرقت ألمانيا حينذاك إرثه، سؤال قد أرده عليَّ لاحقاً.

اللافت حقاً أن كافكا استطاع إقناع قارئه بأن بطل حكايته قد تحوّل بالفعل إلى حشرة ضخمة من خلال الوصف الدقيق والتصاوير، لدرجة أن من رأى هذا المخلوق من أسرته قد أصيب بالتقزز والهلع، كذلك كبير الموظفين فد هرب خوفاً، ومع هذا كله بقيت حشرة كافكا مجازاً تم زرعها في المتخيل بأصابع خبيرة بغاية الشفافية، إلى أن تسدل الستارة على تابوت رسم عليه صليب، وهذا ما جعلني أردّ عليَّ سؤالي السالف بأن الرجل لم يتنكر للفكر الإيماني، ولو أنه كما ذكر في أكثر من مرجع، لا توجد أيّ إشارة في كتاباته الى ديانته اليهودية! لأذهب نحو الافتراض بالقول، ربما كان الرجل قد تأثر فقط في ذلك الوقت بفكر روز لكسمبورغ التي دفعت حياتها ثمناً لهذا ليس إلا.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى