واشنطن و«داعش» والطلاق الموقت؟

د. تركي صقر

تبدّل واشنطن أدواتها في السياسة الخارجية بسرعة كما تبدّل عارضة الأزياء ملابسها غير أنّ الفارق بين الحالتين أنّ ملابس العارضة في كلّ الأحيان ملابس نظيفة ومعطرة لضرورات العرض على الجمهور، بينما أدوات السياسة الخارجية الأميركية في معظم الأحيان قذرة شكلاً ومضموناً، وذات روائح دموية كريهة، ولا تنفع مع تحسينها الألوان البراقة والإعلام المفبرك عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والأمن والسلام في العالم.

ينطبق هذا الكلام على تاريخ طويل من استخدام الولايات المتحدة للتنظيمات والعصابات الإرهابية في تنفيذ سياساتها الخارجية بما فيها استخدام المافيا على نطاق واسع واستخدام الحكام العملاء على نطاق أوسع وبعد الاستخدام سرعان ما ترمي واشنطن هؤلاء فرادى ومجتمعين على قارعة الطريق أو تتركهم لمصيرهم عندما تنتهي مهمتهم أو يفقدون صلاحيتهم وتكون قد وجدت عملاء جدداً.

هكذا فعلت بحكام كثر أمثال شاه إيران والسادات ومبارك وعبد الرحمن واحد وابن علي وحمد حاكم قطر السابق وقبله والده ويلتسين وغورباتشوف وعدد لا يحصى من الحكام العملاء في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا والحال نفسها بالنسبة للتنظيمات والمجموعات الإرهابية، وأقرب مثال ما جرى مع جماعة الإخوان المسلمين التي تعود بالنشأة والعمالة للإنكليز أولاً وورثتها رعاية وعمالة واشنطن تالياً منذ الحرب العالمية الثانية إلى أن كانت الصفقة الكبرى مع الجماعة في ما سمي الربيع العربي… لقد ذكر محمود جبريل رئيس حكومة الأزمة التي مثلت المنظمات المعارضة أثناء الثورة على القذافي لصحيفة «الحياة»: «إنه لمس أثناء الثورة رغبة أميركا في تسليم الحكم للإخوان وحلفائهم في إطار استراتيجية لتسليمهم الحكم في جميع بلدان الشرق الأوسط».

ماذا حصل؟ عندما فقدوا صلاحيتهم نتيجة سقوط حكم مرسي وانهيار المشروع الإخواني في المنطقة تخلت عنهم واشنطن وتركتهم لمحاصرات ومضايقات من بريطانيا ذاتها ولمطاردات من قبل السعودية ودولة الإمارات وقطر، وراح قادتها يهيمون على وجوههم في عواصم العالم. وسرعان ما استبدلتهم إدارة أوباما بالتنظيمات المصنعة في السعودية على أساس الفكر الوهابي التكفيري بطبعاتها الجديدة التي تفرعت عن القاعدة صنيعة السعودية وأميركا في أفغانستان ومنها تنظيم داعش وجبهة النصرة وفصائل عدة وأحدثها ما سمي شبكة خراسان.

ما يهمنا في الموضوع علاقة واشنطن بداعش الطبعة الأضخم لتنظيم القاعدة وما آل إليه الغرام القاتل بينهما يقول محمد بركات الذي كتب تحت عنوان «الحرب على داعش» بصحيفة «الأخبار» المصرية: «المتتبع لتاريخ ونشأة جماعة داعش الإرهابية وغيرها من الجماعات المتواجدة الآن على الأراضي السورية والعراقية وغيرها من البلاد العربية لا بد أن يلفت انتباهه بقوة وجود مؤشرات ودلائل تربط بين هذه الجماعات والولايات المتحدة وحلفائها في منطقة الشرق الأوسط بصورة غير خافية بل تكاد تكون معلنة».

قبل ظهور التنظيمات المتطرفة كانت أميركا قد تمكنت بنجاح من طرد بريطانيا ومعها فرنسا من التأثير في السياسة الدولية، وذلك منذ الاتفاق الذي حصل بين كيندي وخروتشوف عام 1961. وعملت أميركا بعد ذلك على طرد أوروبا من مناطق نفوذها في آسيا وأفريقيا. وقد ظهر ذلك جلياً في إعلان بريطانيا عام 1968 استعدادها للانسحاب من منطقة الخليج بحلول عام 1971 وأسرعت أميركا بملء الفراغ هناك.

ليس صعباً ملاحظة دور مزدوج قامت به الولايات المتحدة، بعد أن ملأت الفراغ وخلت لها الساحة، الأول شحن الشباب العربي والمسلم بالغضب، بالتالي دفعه إلى فكرة الانتحار أو الاستشهاد المحببة دينياً باعتبارها الحل الوحيد للتخلص من المظالم الاستعمارية القاهرة للشعوب والحكام معاً. والثاني استثمار هذا الناتج في خدمة المصالح الأميركية كوقود في حروبها مع أعدائها. حدث هذا في أفغانستان في بداية الثمانينات عندما سهلت لأسامة بن لادن وتنظيمه التوطن هناك وأشرفت على تدريب كوادره وتسليحها وتمويلها بمشاركة نظم عربية حليفة لها كانت تقف ضد الغزو السوفياتي لأفغانستان وتخشى من انتشار المد الشيوعي المصاحب للنفوذ السوفياتي. وها هو يحدث مرة أخرى في السنوات الثلاث الأخيرة عندما قررت الولايات المتحدة استخدام بعض حليفاتها العربية مع تركيا في تنظيم وتدريب وتسليح وتمويل منظمة داعش لتساعدها في ضرب محور المقاومة في سورية ولبنان والتصدي للنفوذ الإيراني والقوة الإيرانية المتنامية في الساحتين العربية والإقليمية.

إن هذه المنظمات تدرك جيداً أن حسابات الولايات المتحدة تقوم على استخدام نزعة الاستشهاد لدى أفرادها كمخلب قط يخرمش الأعداء المشتركين مثل الاتحاد السوفياتي سابقا وروسيا حالياً وسورية ولبنان وإيران والعراق ومحور المقاومة ككل. وهي تفهم أنها بمجرد القيام بوظيفتها المحددة لها من أميركا سيجرى التخلص منها أو ركنها جانباً وتعبئة النظم والدول المتضررة من نشاطها الإرهابي للقضاء عليها. الخلاصة أن العلاقة بين أميركا وهذه المنظمات هي علاقة استخدام واستغلال متبادل لا مكان فيه للثقة المتبادلة وبالتالي فهي علاقة تحالف موقت. وبالتالي يكون شعار «مكافحة الإرهاب» الذي ترفعه إدارة أوباما اليوم مع حلفائها ليس أكثر من غطاء أميركي لتأديب داعش التي خرجت عن الطوق لتكون عبرة لكل من يخالف أميركا من الحلفاء.

والخلاصة أنه بعد الاستخدام والاستغلال جاءت مرحلة التأديب لداعش عبر ضربات من السماء يعرف أقل الناس علماً بالحروب أنها لن تنهي داعش وأن التحالف الدولي له طابع استعراضي ليس إلا، ويسعى إلى أهداف أخرى لم تتضح بعد ليس منها إنهاء تام للمنظمات الإرهابية لأن الحرب الجوية لها تأثير محدود في حرب العصابات، مما يعني أن قصد واشنطن من هذه الغارات تحجيم داعش بعد طلاق موقت يعيدها إلى بيت الطاعة الأميركي لاستخدامها عند الحاجة والتخلص منها كما يتم التخلص من النفايات ومكبات القمامة.

tu.saqr gmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى