لبنان مستهدَفٌ أيضاً: خان شيخون تجديد غربي لمشاريع التقسيم

د. وفيق إبراهيم

تتجدّد الأساليب الغربية لكنّ تحقيق المشاريع الكبرى يبقى رهناً «بتركيب» لحظات مفصلية في التاريخ تستند إلى «إمكانات القوة» و«تحالفات أسياسية».

«لعبة» خان شيخون تتقمّص هذه المفاهيم… سبقتها زيارة وليّ وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان إلى واشنطن، حيث استقبله رئيسها دونالد ترامب كخليفة للمؤمنين، واتفقا على صفقات قيمتها نحو مئتي مليار دولار. تلاه ملك الأردن عبدالله منجزاً زيارتين متتاليتين في غضون ثلاثة أسابيع لا يحدث مثلها في عالم العلاقات السياسية إلّا لأمور خطرة جداً.

وكانت للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي حصّته، فاستقبله ترامب بحفاوة فسّرها الإعلاميون بالكاريزما، أي الانسجام بين شخصين لتشابه الأمزجة والارتياح إلى الشكل، لكنّ الحقيقة في مكان آخر.

فالقاهرة بالنسبة لواشنطن هي البلد العربي الأكبر، وبإمكانها إضفاء شرعية على المشاريع الأميركية مقابل تسهيلات اقتصادية… سعودية وخليجية ومعونات أميركية استرهانيّة.

في إطار هذه التحضيرات المريبة، أوهمت إدارة ترامب العالم أنّ مصير الرئيس السوري بشار الأسد هو عند السوريّين فقط، وأنّ تحرّكها منحصر بإبادة «الإرهاب»، فأيّدتها في هذا الموقف جوقة البلدان الغربية التابعة لها، إلّا أنّ استكمال التحضيرات الأميركية كشف عن الأساليب الجديدة الخليج لتمويل التحرّكات، والأردن لجذب الفلسطينيين نحو «الحلّ الأميركي»، ومصر للدور السياسي مع إسناد عسكري في اليمن وربما.. في سورية، والقوات الأميركية والكردية والأردنية في الشرق والجنوب السوريّين. وبذلك يتمّ تقسيم سورية إلى كانتونات تركية في الشمال، وإرهابية في إدلب، وكردية في الشرق وأميركية من الشرق والشمال إلى الحدود العراقية الأردنية، هذا إلى جانب الدولة السورية التي تفضّل واشنطن ترك رعايتها لروسيا لتحييدها، فتكون بذلك قد عزلت إيران وطوّقت تركيا وحدّت من تدحرج النفوذ الروسي في المشرق عند حدود الدولة السورية في مواجهة الكانتونات السورية الأميركية الصنع.

هناك أيضاً بلدان اثنان وقضية تاريخية في الاستهداف: العراق الذي يعمل على أن يكون تحرير الموصل مناسبة تاريخية لإعادة استيلاد «العراق الوطني»، فيما يعمل الأميركيون والسعوديون على تشظيته إلى ثلاث دول، وما حكاية رفع العلم الكردي في كركوك إلّا محطة في سياق مشاريع التقسيم، لا سيما أنّ سلطات كردستان أعلنت عن استفتاء في كركوك لإعلان الحدود النهائية للدولة وسط صراخ أطراف عراقية مدعومة من أميركا والسعودية وتركيا وتطالب بكانتون سنّي.

أمّا البلد الثاني المستهدَف، فهو اليمن الذي يتعرّض لغزو شامل، وهناك معلومات تتردّد عن موافقة أميركية حملها بن سلمان إلى بلاده بغزو ميناء الحديدة، أي المنفذ الأخير الذي يحمل المواد الغذائية إلى هذا البلد المحاصر، في محاولة لكسر صمود أنصار الله والجيش اليمني وتأليب المدنيّين عليهما.

ولفلسطين مكانتها في المشروع الجديد، فالبيت الأبيض يأمل بوساطة أردنية لإنتاج حلّ يحافظ على شكليّة حلّ الدولتين مع تفريغه من محتواه، وأول تقاسيمه الإبقاء على المستوطنات «الإسرائيلية» في الضفة مقابل مساحات مماثلة من صحراء النقب، وتدويل القدس، وإعلان دويلة فلسطينية داخلية مجرّدة من السلاح، ترتبط بمنافذ بحرية من «إسرائيل»، وغزة جزء منها من دون أي تواصل جغرافي. أمّا حقّ العودة فملغى مقابل السماح بتوطين اللاجئين الفلسطينيين في بلدان اللجوء ودول أخرى على رأسها السودان ومصر، وتسرّبت معلومات أنّ «إسرائيل» ترفض تدويل القدس وتصرّ على «إسرائيليّتها»، وهذا ما يعقد الحلّ.

توصّلت واشنطن مع حلفائها إلى أنّ تحقيق هذا المشروع يتطلّب ضرب قدرة سورية على الرفض، وتدمير النفوذ الإيراني في اليمن والعراق ولبنان.

خان شيخون هي الحركة الأولى… اتهام القوات الجوية السورية بقصفها بالكيميائي بالتزامن مع نشر صور لقتلى هذه الغارات، وسرعان ما بدأت مئاتمحطات التلفزة الدولية بنشر الصور وعرض مقابلات وتقديم مقاربات للطريقة التي قصف بها الطيران السوري بلدة خان شيخون، وانهالت المواقف السياسية الأميركية والخليجية والأوروبية والتركية لتؤكد ضرورة إدانة الدولة السورية بهذه المجزرة مع إصرار على رحيل الأسد ومحاكمته.

ولاستكمال تأمين حلقات المشروع الأميركي، تمّت دعوة مجلس الأمن لاستصدار قرار إدانة تحت الفصل السابع، ما يبيح حقّ التدخّل العسكري ضدّ روسيا. وتصدّت روسيا بالطبع لهذا المشروع، لأنّه يماثل أحكام «قراقوش»: يتّهمون رجلاً يشنقونه أولاً ثم يحاكمونه في ما بعد. تماماً كما فعلوا مع الرئيس العراقي السابق صدام حسين. فعلى مَن تقع مسؤولية تدمير العراق وقتل أهله؟

والطريف الذي يثير السخرية، هو كيف توصّلت واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون والخليجيون والأتراك إلى دلائل تؤكّد مسؤولية سورية؟ في حين أنّ منطقة إدلب حيث توجد خان شيخون تخضع لوصاية الإرهاب التكفيري مباشرة من «نصرة وداعش» ومتفرّعاتهما!

فإذا كانوا قد عاينوا المكان المقصوف، فلا بدّ أنّهم دخلوا إلى خان شيخون برعاية الإرهاب الإدلبي الذي يسيطر على المكان. وهذا يكشف مدى التنسيق بين هذه الدول والإرهابيين. أمّا إذا كانوا قد استدلّوا على الأمر بمعونة تركية محتملة، فالأتراك أصحاب غرض وهم يريدون تفجير التسويات الروسية الأميركية إذا كان ذلك بمقدورهم. ويبدو أنّهم يحاولون ذلك معتمدين على أنّ الحدّ الأدنى المرسوم لهم أميركياً هو المرابطة في شمال سورية حتى حدودها بمساحة خمسة آلاف كيلو متر مربع تقريباً.

لذلك لا وجود لأدلّة تقنية ملموسة عند الغرب، ما يشير إلى أنّها مجرّد اتهامات سياسية تحاول فبركة لحظات مصيرية للبدء بتحقيق المشروع الأصلي. والتحليل المقنع الذي تقدّم به الروس حول وجود معامل لتصنيع السلاح الكيميائي في خان شيخون قصفها الجيش السوري لأنّها أهداف عسكرية، هو التحليل الأكثر علمية والبعيد عن التسييس في تفسير هذه الحادثة.

وما قبول أعضاء المجلس الأمني بالاقتراح الروسي المطالب بالتحقيق الملموس حول «مأساة خان شيخون» إلّا الدليل الأولي على مدى تأثير دور موسكو في إحباط التآمر. لكنّ الأمر لن يقف عند هذا الحدّ، وقد يبقى مادة سجال لمدّة طويلة حتى يتمكّن مشغّلو المعارضة التكفيرية من إعادة ترميمها بأشكال جديدة للزوم معركة تقسيم سورية.

أمّا عن النفوذ الإيراني، فيبدو أنّ واشنطن قد تستهدفه أيضاً في العراق ولبنان.. ففي بغداد، هناك إصرار من التحالف الأميركي على تقسيمه بدعم من أنقرة والرياض وعمّان، وتورّط مباشر من البرازاني في كردستان العراق، لأنّ لعبة كركوك ليست بريئة وفي هذا الوقت بالذات، حيث يتقدّم الجيش العراقي لتحرير آخر ما تبقّى من الموصل.

لجهة لبنان، من المرجّح أن يكون في هذه المرحلة هدفاً كبيراً لواشنطن، لأنّه يضم المقاومة التي تتصدّى للنفوذ الأميركي «الإسرائيلي» الخليجي في منطقة بلاد الشام والعراق، وله تأثيره في البحرين واليمن، فكيف يمكن للمشروع الأميركي أن يعبر في المنطقة من دون التلاعب بالأمن اللبناني؟

والدوائر اللبنانية القابلة للاستهداف تبدأ بالعلاقات السياسية الداخلية. وهنا تستطيع واشنطن أن تحضّ حلفاءها فيه على افتعال صراعات سياسية عميقة تستهدف «حركة الحزب نحو الإقليم»، ما يدفع إلى توتير الأوضاع الداخلية وتشجيع الإرهاب النائم على التحرّك، وقد تذهب واشنطن إلى إقرار قوانين اقتصادية تحدث تدهوراً في الاقتصاد اللبناني إلى جانب سياسات خليجية مفاجئة قد تستهدفه أيضاً.. فهل هذا وارد؟

هناك تقديرات تذهب إلى حدود صدور تشجيع أميركي خليجي لـ«إسرائيل» بافتعال معارك عسكرية على الحدود لجذب انتباه حزب الله نحو الجنوب اللبناني، مع غارات يومية على مواقعه.. ولِمَ لا؟! فـ»إسرائيل» موعودة من الرياض بعلاقات عربية وإسلامية واسعة تؤمّن لها التغطية السياسية والدينية في حروبها، إلى جانب فتح علاقات اقتصادية بين الطرفين من دون حدود. لذلك، فلبنان مهدّد أيضاً بهذه الأساليب الأميركية الجديدة.

والسؤال الذي يجب أن يُطرح هو: هل هناك فرصة لنجاح المشروع الأميركي؟

التحالف الروسي الإيراني المتّكئ على موافقة صينية خجولة يستطيع منع الحلم الأميركي، ومقبل الأيام يحمل في طيّاته إجابة وحيدة وهي أنّ عصر الاستعمار قد ولّى، ويبقّى على حلف المقاومة مع روسيا والصين إثبات جدارته في تأكيد هذه المقولة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى