ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…

ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…

تُخصّصُ هذه الصفحة صبيحة كل يوم سبت، لتحتضنَ محطات لامعات من تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، صنعها قوميون اجتماعيون في مراحل صعبة من مسار الحزب، فأضافوا عبرها إلى تراث حزبهم وتاريخه التماعات نضالية هي خطوات راسخات على طريق النصر العظيم.

وحتى يبقى المستقبل في دائرة رؤيتنا، يجب أن لا يسقط من تاريخنا تفصيل واحد، ذلك أننا كأمّة، استمرار مادي روحي راح يتدفق منذ ما قبل التاريخ الجلي، وبالتالي فإن إبراز محطات الحزب النضالية، هو في الوقت عينه تأكيد وحدة الوجود القومي منذ انبثاقه وإلى أن تنطفئ الشمس.

كتابة تاريخنا مهمة بحجم الأمة.

إعداد: لبيب ناصيف

الأمين حّنا يوسف قيصر… قدوة في الالتزام والمناقب والممارسة

الأمين حنّا قيصر هو من الرفقاء الذين حفروا الكثير في أعماقي، وفي وجداني، وأذكرهم دائماً بمحبة وتقدير، عارفاً ما في أعماقهم من التزام نهضوي بالحزب.

عرفت عنه عندما كان في الأسر، والتقيت به بعد خروجه بناء لقانون العفو في 19 شباط 1969، ثم عرفته جيداً في نشاطه الحزبي وخاصة عندما تولّى مسؤولية خازن عام في فترة توليّ مسؤولية عميد مالية عام 1982.

في تلك الاشهر العصيبة التي تعرّضت فيها بيروت للحصار، ولكثير من القصف المدفعي والجوي، لم يتوار الأمين حنا ويختار، كغيره، سلامة الجسد على وقفة العز، انما تابع القيام بمسؤوليته المركزية كخازن عام، ومسؤول عن التموين للرفقاء الذين توزعوا في المواقع الامامية عند خطوط التماس، فكان، لسهره، ومتابعته، ودقة تنظيمه، وتفقده المواقع الخطرة، اثره البالغ في تثبيت معنى القدوة، وفي تمكين الرفقاء من القيام بالواجب العسكري.

طوال تلك الاشهر المحفوفة بالمخاطر، لم يتوقف الأمين حنا قيصر يوماً عن القيام بما تقتضيه مسؤوليته المركزية من متابعة وتسجيل وتنظيم، فكان في ذلك المنظم والمدقق لكل حركة الحسابات المالية مع ما فيها من تنوع، في اوقات عصيبة جداً لم يكن ممكناً اعطاء الناحية الورقية المكتبية ما تحتاج اليه، الا ضمن فسحة ضيقة جداً.

بعد انسحاب «إسرائيل»، تمنيتُ على الأمين حنا أن يتوقف عن متابعة مهامه كخازن عام، إذ ـ وهو ابن الجنوب السوري ـ كان معرّضاً أكثر من غيره للاعتقال على يد الثنائي يومذاك: الجيش والقوات اللبنانية، وربما للتصفية، فأبى وأصرّ على متابعة مسؤوليته، مستفيداً من مكان قريب 1 إلى الشقة التي كان يقطنها في منطقة كراكاس لتنظيم السجلات والملفات المالية، ولوضع الاوراق والمستندات التي كانت تؤمنها له الناموس المساعد في العمدة الرفيقة هلا النابلسي 2 والا الرفيق غسان الشومري 3 ، في مكان خفي أمين لا يمكن لأحد ان يكتشفه.

استمر الأمين حنا متابعاً مهام مسؤوليته إلى ان رفع إلى المجلس الاعلى في الحزب، وكان يرأسه الأمين مصطفى عز الدين، بيانه المالي الكامل عن كلّ الاشهر الصعبة التي كان من النادر ان يتمكن غيره من القيام بالاعباء الضخمة التي لم تثقل كاهله ولم تحنِ له هامة.

في الايام السوداء يُمتحن الرجال. والأمين حنا قيصر امتُحن كثيراً، ونجح كثيراً. من كان مثله لا يُنسى. يبقى في اعماق الوجدان وفي ذاكرة الاوفياء، لكأنه لم يرحل ابداً ولم ينتصر عليه المرض الخبيث.

لذا، كلما تذكرته، أشعر بعظمة هذا الحزب الذي شعّ فيه آلاف المؤمنين وسطّروا في تاريخ أمتنا الحديث اروع الملاحم، والأمين حنا قيصر أحد المجلّين منهم.

كتبوا عنه

الأمين ابراهيم الزين 4 وهو من أصدقاء الأمين حنا قيصر، عرفه مسؤولاً في منفذية الضاحية الشرقية، قبل الانقلاب، ثم في الأسر وقد شاركا في الثورة الانقلابية وحكم عليهما، ليخرجا مع العفو في شباط 1969 ويتابعا طريق النضال القومي الاجتماعي.

عن صديقه ورفيقه الأمين حنا قيصر كتب في جريدة «الديار» بتاريخ 03/09/1998:

إلى الأمين حنا قيصر

موجع رحيل الأحبّة بالموت يا أخي!

منذ الستينات، عشنا متجاورين في ضاحية بيروت الشرقية. جمعنا الايمان بالعقيدة القومية الاجتماعية، حيث عملنا معاً، وكنا مثال الرفيقين المخلصين الصادقين المتحابين، وفرضنا ذلك على أسرتينا، وكلّ معارفنا من القوميين الاجتماعيين. دخلنا السجن معاً عل إثر فشل المحاولة الانقلابية أواخر عام 1961 لاشتراكنا الفعلي في تنفيذ مهمات هامة وخطيرة، وبقينا معاً حتى صدور العفو العام عنّا، في شباط 1969. لم تكن لنا أهداف خاصة تشغلنا عن النضال الدائم، لأنّ همّنا الأكبر كان ولم يزل انتصار اهداف الحزب الذي في انتصاره اختصار لزمن المحن التي تصيب شعبنا، وانقاذ لمستقبله من الاضمحلال وضياع الهوية والذات في متاهات الاحلام السرابية. كنا على تواصل مستمر، بالرغم من وجود الحواجز العديدة التي قسمت لبنان إلى مناطق نفوذ طائفي متناحرة، ومنتحرة.

منذ أربع سنوات فوجئت بدخوله مستشفى الجامعة الأميركية حيث كان يُعالَج من تورّم في إحدى رئتيه، وحين التقينا كان كعادته مرحاً سريع الخاطر، قوي الإرادة، هازئاً بالموت وكل جبروته، ومنذ أشهر قليلة علمت بأنه دخل المستشفى ذاته من جديد لأنه كان يعاني من تعثّر في مشيته وعدم إحساس في نهاية عموده الفقري. زرته مرتين فكان مرحاً كعادته، والنكتة الذكية هي العنوان الدائم لتعليقاته على ما كان يدور من أحاديث متشعبة بين زائريه.

في المرة الثانية أطلعني وبهدوء غريب على أن السرطان أصاب السائل المحيط بالنخاع الشوكي، كما وُجدت علامات لنفس الداء في الدماغ. فارقته وفي نفسي ألم غريب على هذا العمر الذي أخذت منه الأوجاع النفسية والجسدية قسطاً كبيراً، دون ذنب، وتساءلت بمرارة لماذا يمرض أصحّاء الإيمان وذوو النفوس التي ما عرفت غير العز والعنفوان والتضحية في سبيل الخير العام، غير أن عزاء واحداً ظل مستقراً في أعماق الوجدان وغير قادر سلطان الموت على محو توهجه مع مرور الأيام، لأن من كان مثل الأمين حنا قيصر إيماناً وعملاً وإخلاصاً للقضية وتضحية في سبيل المبادئ والقيم، سوف لن يطويه الموت، لأن قدوته ستظلّ فاعلة في رفقائه جيلاً بعد جيل.

في حضورك الدائم في ذاكرة أبناء الحياة الأوفياء الذين ناضلت وإياهم سوف لن يموت، وإن كل من كان بمثل صدقك وإخلاصك وعطائك للحياة سوف لن يغيّـبه الموت إلا كجسد فانٍ لا قيمة له، فأنت باقٍ في ذاكرة أجيال النهضة قدوة صالحة لا تموت.

وفي ذكرى مرور سنة على رحيل الأمين حنا قيصر، كتب رفيقه نظام نصير 5 الذي عرفه جيداً الكلمة التالية بعنوان «إلى روح حنا قيصر» وقد نشرتها جريدة «الديار»، بتاريخ 07/09/1999:

تمر الذكرى السنوية الأولى على غيابك عنا. فنشعر كم أن تعلقنا بك وبمناقبيتك يزداد نضوجاً مع ذكراك الخالدة، حيث تعجز الكلمات عن وصف الإشتياق إليك، وعن شرح ما في الأعماق نحوك، إلا أنه كان لا بد لي أن أكتب بعض الكلمات التي تتدفق من شرايين القلب النابض بالحياة، لأنك رمز من رموز الأمة الحية. أبيت إلا أن تنهي حياتك كما ابتدأتها، شامخ الجبين، صلب الإرادة، قوي العزيمة، سلاحك الحق، وطلاقة لسانك السلاح الفاعل في وجه الخطأ والفساد.

في ذكراك، تنهمر دمعة على الوجه، وتشتد الأعصاب، ونصبح عاجزين عن ضبط أنفسنا تجاه المأساة. كل ذلك وأنت حي فينا، فنضالك وجهادك وتضحياتك ليست بالأمر العابر على الإطلاق، وإن تاريخك معروف عند الجميع، وأنت الذي كنت أباً وأخاً وصديقاً ورفيقاً للجميع.

شهر آب هو شهر الحزن لنا، لأنه خطفَ منا أعزّ الناس على قلوبنا، هو شهر الحداد لنا جميعاً لأن رحيلك كان فاجعاً فيه.

يا أعزّ الناس على قلبي، ماذا أقول لك وأنت من اعتاد على تقديم النصح والإرشادات لنا.

كنا ننتظر كل صيف أن تطل علينا ولو لساعات محدودة، لأنك كنت تمدنا بالأمل وحب المستقبل، ومهما طالت المسافات بيننا، سيأتي اليوم الذي نجتمع فيه سوياً مع معلمنا الخالد سعاده.

ذكراه الطيّبة باقية تعبق في قلوب عائلته ورفقائه..

الكلمة التي ألقاها نجله يوسف في الاحتفال التكريمي الذي اقامه الحزب السوري القومي الاجتماعي في نادي خرّيجي الجامعة الاميركية في بيروت في 8 أيلول 1998:

قالوا استراح من عذابه، ام انه اراح من حوله من عذاب رؤيته يذبل امامهم، قلت: ابدا لم يذبل يوما ولا ارتاح لحظة.. بل انه سما بعذابه الذي مارسه حتى اللحظة الاخيرة لكونه لم يكن يفكر في نفسه وفي آلامه. اراد ان يظل في ذاكرتهم كما عهدوه، هذا المناضل الذي نذر نفسه لحزبه ولأمته.

قالوا رحل باكراً. قلت انه يرحل باكراً في اي عمر كان. لأن نبع عطائه لا ينضب ونهر اخلاصه لا يجف وبحر صموده لا يسكن. لم يرحل، هو باق من خلالنا وفي استمرارنا.

قالوا انطفأ نور العينين، قلت: مصباحه سيبقى منيراً، وطريقه ستبقى واضحة رغم وعورتها، وغايته ستبقى جلية رغم صعوبتها. هو علمنا الصراع وخاطب فينا على الدوام القوة التي لو فعلت لغيرت وجه التاريخ.

قالوا مات المرحوم حنا. قلت لم يمت. ذكراه الطيبة باقية تعبق في قلوب عائلته ورفقائه واصدقائه ومناقبه تشع في نفوسهم ابدا.

قالوا من ينجب لا يموت. قلت لم ينجب اولادا له، بل انجب ابناء للحياة نفح فيهم الايمان والعزم والاخلاق مستلهما بذلك ملامح الانسان الجديد.

قالوا: يستحق تكريما يليق به، كما هذا اللقاء اليوم. قلت: كلمات كثيرة طيبة تقال في حنا يوسف قيصر. اما التكريم الحق فيبدأ منا نحن ان نقتدي به، وينتهي ويستمر فيكم انتم ان تحفظوا العقيدة وتصونوا المبادىء.

بإسم عائلته واقربائه، اشكركم جميعاً على حضوركم وعلى مشاركتكم في تكريم الأمين والزوج والوالد والاخ والصديق حنا يوسف قيصر.

عاش مرفوع الرأس دائماً، وسنعيش مرفوعي الرأس ابدا، يستحق منا هذه اللحظات لنقول له وداعاً، بل لنقول له شكراً. شكراً للزوج الصالح والاب العطوف. والاخ البار والصديق النصوح.

بل شكراً على استقامتك في زمن سهل فيه الاعوجاج. شكراً على صراحتك في زمن يحلو فيه التملق. شكراً على جرأتك في زمن تبدو فيه المحابات فضيلة.

لم ترحل يا حنا قيصر. لأن الذكرى باقية والصفات ثابتة والعقيدة راسخة. ستحيا في روح ابنائك وعائلتك، وستحيا في قلوب رفقائك واصدقائك، وستحيا في ابناء الامة. وستحيا في خلود سعاده.

توضيح

سنوات وأنا أراجع معنيين من أجل الحصول على معلومات تفيد السيرة الشخصية للأمين حنا اسم الام. الزوجة. تاريخ الولادة. الدراسة. الاعمال التي تولاها في لبنان، والخارج إلخ… كما الحصول على رسم له وصور حزبية تظهره مع رفقاء، فلم أحظ مع الاسف، رغم الكثير من المتابعة.

لذا، نعمّم النبذة بناء لما متوفّر لدينا من معلومات، على أمل أن نستلم أيّ معلومات جديدة أو إضافات تغني النبذة عن الأمين القدوة حنا قيصر، فنعمّمها في جزء ثان.

هوامش:

1 مكتب الفاضل يوسف الخوري، والد الأمين ميشال، وكان يحفظ المستندات المالية في مكان خفي لا يمكن الوصول إليه.

2 هلا النابلسي: انتقَلتْ إلى مسؤوليات حزبية عديدة، آخرها مدير دائرة الإحصاء في عمدة الداخلية. أشهد أنها في تلك الأشهر الصعبة، لم تنكفئ أو تتوارى، بل استمرّت قائمة بمسؤوليتها بشجاعة ملفتة. والدها الرفيق محمد النابلسي من الجنوب السوري، تولّى مسؤوليات في منفذية المتن الجنوبي وتعرّض للخطف عام 1983 وما زال مصيره مجهولاً.

3 غسان الشومري: من الكيان الشامي. كان والده الرفيق يوسف اقترن من سيدة من آل عماد في العزونية، مستقراً فيها، ومؤسساً عائلة قومية اجتماعية. كان الرفيق غسان يقود السيارة المفرزة لعمدة المالية ويرافق العميد في كل تجواله. شجاع ومتفانٍ ولميتوقف يوماً عن مهامه رغم كل الظروف الصعبة التي شهدتها بيروت تحت الحصار صيف 1982. لا يسعني إلا أن أذكره بكثير من التقدير، فهو من جنود سعاده الذين نفرح بهم.

4 ابراهيم الزين: من شمسطار. تولّى في الحزب مسؤوليات مركزية ومحلية. فكان ناظراً للإذاعة والإعلام، منفذاً، عميداً للإذاعة والإعلام، وكيلاً لعميد المالية، عضواً في المجلس الأعلى إلى مسؤوليات عديدة أخرى، وهو أديب وشاعر مراجعة ما كنت كتبت عنه على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info

5 نظام نصير: كان والده الرفيق نقولا نصير على صداقة جيدة مع الأمين حنا، وقد شاركه الأسر، ولما خرجا استمرّا على علاقة وطيدة. وهو رفيق مثقف، عقائدي، ويتمتع بمناقب النهضة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى