آري دي لوكا… ما بين ملح السياسة وخبز الأدب هارباً!
دعد ديب
حلم الانعتاق والحرية والخلاص هي رسالة الايطالي آري دي لوكا إلى قارئه في كل من روايتيه «جبل الرب» الحائزة على جائزة فيمينا الفرنسية لأفضل كتاب أجنبي عام 2002، و«ثلاثة جياد». وكلتا الروايتين ترجمة نزار آغري ومن منشورات «الجمل»، إذ يختار دي لوكا بطلَي عمليه من فئات عمرية متضادة.
آري دي لوكا اليساري السابق الذي أتى من عالم السياسة إلى الأدب، لم تغادره هواجس تجربته السابقة ورواسبها حيث ألقت بظلالها على عالمه الروائي، ومع ذلك نلاحظ الريتم الهادئ لحركة أبطاله المهمّشين بالحياة وأسلوب السرد البطيء. أو ربما لكونه لم يظهر لنا سوى مؤشراتهم الخارجية الدالة على سلوك يتناوب بين الخوف والقلق وهمّ العيش، أو لربما الترجمة لم تنجح في تبيان العوالم الداخلية للشخوص الروائية، خاصة عندما تتكرر بشكل لافت مفردات مثل: «قال»، «يقول»، بشكل إخباري تقريري سواء برسم صورة للمكان والطبيعة أو لوصف شخوص العمل وملامحهم إذ تأسر القارئ في القول المنشأ مقلصة مساحة التخيل وفراغ التأويل إذ نبقى أسيرين لما رآه المترجم إلى أن يتوضح خلاف ما رآه.
ولد دي لوكا في نابولي عام 1950 في عائلة متوسطة الحال. وانتمى إلى اليسار المتطرّف في سبعينات القرن الماضي، وهو اليسار الذي حوكم بتهمة اغتيال رئيس الوزراء الأسبق آلدو مورو، كما كان المسؤول عن عمليات الخطف والتفجيرات التي عرفتها إيطاليا، أي المسؤول عن تلك الفترة التي عرفت بِاسم «سنوات الرصاص»، حيث لا يزال أبرز منظريها في السجن من مثل أنطونيو نيغري وأدريانو سوفري وغيرهما. يومها وبعد الاعتقالات التي حدثت، غادر دي لوكا إيطاليا إلى فرنسا، بيد أنه عاد بعد سنوات، بعد تبرئته، إذ لم تجد المحاكمات التي أقيمت، أنه شارك في أي أعمال ذات طابع عنفي. وفي عام 1976 انطلق إلى الانخراط في الأعمال اليدوية ليكون في صفوف «البروليتاريا». عمل في إيطاليا وفرنسا وأفريقيا، سائق قطارات وشاحنات، عامل سكك حديد، عامل بناء. وخلال حرب البوسنة، عمل سائقاً لمنظمة إنسانية. وقبل مدة ابتدأت محاكمة دي لوكا، إذ مَثُل أمام محكمة تورينو بتهمة «التشجيع على التخريب» بقضية حفر سكة الحديد، وقد أثارت ردود فعل كبيرة باعتبارها ذات خلفية سياسية متعلقة بماضيه السياسي أكثر منها مسألة حقوقية ومطلبية للبشر الساعين لتحسين شروط حياتهم.
الخلفية اليسارية الطبقية لـ«دي لوكا» ستبدو في رواية «جبل الرب» ذات ملامح واضحة فبطلها فتى يافع في الثالثة عشرة من عمره، يظهر من خلال سيرورة حياته واقع القاع الاجتماعي المهمش، واقع المسحوقين الذين يمضون حياتهم راكضين وراء لقمة العيش إذ تختصرها إحدى الشخصيات المعلم أريكو بتعبير: «العيش لقمة» بكناية مجازية عن العمر الذي يركض سراعاً من جهة ومن جهة أخرى يختصر العمر بالركض وراء لقمة العيش حيث يعرف الوطن بأنه المكان الذي يوفر لك الخبز، الفتى اليافع الذي لم نعرف له اسماً طيلة الرواية هو المحور الذي تدور حوله شخصيات الرواية الأخرى وهي شخصيات مسحوقة رثَّة وغارقة بهمومها وتعب الحياة حيث الجميع يتقاسم الهموم عبرها، بينما نال الفتى نصيباً من العلم جعله قادراً على القراءة بالايطالية التي يصفها بأنها لغة صامتة من دون لعاب، بينما اللغة النابولية، اللغة المحكية لغة الحياة، أما صديقه اليهودي الأحدب رافييلو، صانع الأحذية التي عرفتها أقدام أهل القرية من بعد مجيئه إليها ناجياً من «الهولوكوست الذي أودى بأهله ومعارفه»، الحالم بأجنحة خضراء لما تزل تطقطق تحت حدبته تتوق للطيران والرحيل، صورة بارعة للحلم المجنح ورؤية متخلقة لعاهة تضمر نزوعاً للتحليق الأرحب نحو أمل في مكان يليق بالعيش الكريم، لكن هل القدس هي مكانه؟ أم هو بحث عن تاريخية غيبية للمكان؟ ولماذا يفترض الكاتب القادم من زمن الألوية الحمراء أن تكون هذه المدينة ملاذاً لحلمه أهي ظلال توراتية ـ «سدوم وعامورة» ـ تحضر في وعي الكاتب؟ أم يطرح واقعاً ذهنياً بأحقية دينية مدعاة من غابر العصور بمكان مقدس وطرد أهله المقيمين فيه حالاً، بالتأكيد لا يمكن لنا أن ندع فكرة كهذه تمرَّ مروراً عابراً أو تصاغ جزافاً من قبل الكاتب، أهي إشارة تبريرية لمن أتى من أصقاع الأرض ليستوطن في فلسطين على حساب أبنائها؟ تساؤلات يقودنا إليها عنوان الرواية منذ البداية كتوشيح لتداعيات ترد في الأسفار التلمودية خاصة بتعبيره ليست ثمة فروع للأرض المقدَّسة.
وإن كنَّا ميالين لأن ننتصر للإنسان المسحوق أينما كان فلا يعني ذلك على حساب مستضعف آخر. ننتقل بعده إلى ماريا الفتاة المستغلة جنسياً من قبل صاحب بيتها التي ترافق انتقاله من الطفولة إلى الشباب وتواكب اكتشافه لجسده كمراهق ومعرفة أسرار النشوة والجنس ونمو وقساوة جسده مرتبطة باشتداد ساعده وصلابة عضلاته مرمزاً لتلك اللعبة الشبيهة بسلاح، التي أهديت لها «البومرانغ» قطعة الخشب المعقوفة التي تقذف بالهواء وتعود إلى يد قاذفها والتي تحتاج لقوة عضلية كي يستطيع إطلاقها، وكذلك هو امتلاكه قوة العضد هي التي تحرره وتطلقه في مجاهل الحياة وتواكب انبثاق ذاته، لننتقل إلى الرواية الثانية «ثلاثة جياد» التي يشي عنوانها بعمر الإنسان الذي يعادل عمر ثلاث أحصنة وبطلها خمسيني هارب من الموت في بلاده الأصلية.. وهو ملاحق من قبل جهات يذكر بأنها ذات صفة ديكتاتورية بعد إعدام حبيبة عمره حيث تلقى من الطائرة وهي مكبلة اليدين فيضطر للفرار بجلده ويعمل بستانياً في إحدى المزارع، ليجد في الكتب والحديث إلى الطبيعة والنبات ما يغنيه عن قسوة البشر حيث وجد لغة خاصة بينه وبين نباتات وأشجار المزرعة حيث للعود الأخضر نسغه الحي وروحه التي تهجس بالسكون والألفة إلى أن يتعرف إلى ليلى «بائعة الهوى» والتي تتعلَّق به رغم فارق السن بينهما وهي الجميلة الفاتنة إذ ترى فيه عمقاً إنسانياً نادراً بين الرجال الذين تعاشرهم، ومع ذلك يبقى ثمة من يطارده حيث ما من ماض يُنسى لأي أحد. صديقه الأفريقي الذي يبيع الورود قاطفاً إياها من حديقته ويتكسب عيشه من وراء ذلك، وهو الذي يرفض أن يأخذ مقابلاً، لذلك ليبقى هذا المعروف ديناً في عنق صديق شاء الزمن أن يجمعهما غريب إلى غريب. ينتظر الفرصة لسداده، وهذه الفرصة تأتي يوم رحيله عندما يدرك أن ثمة من يلاحقه ويطلب رأسه، رد الجميل بقتل من ينوي التخلص منه ذبحاً بالسكين. لا ندري هنا ما الذي يريد أن يصل إليه الكاتب إذ لا يمكن لنا أخلاقيا تبرير العنف بعنف بديل ولا الجريمة بجريمة مهما كانت الدوافع نبيلة والعنف الثوري الذي كان سمة سائدة لتيارات تدعي أن الإنسان قضيتها الأولى، أعتقد أنه آن الأوان لإعادة مراجعة أخطاء ومثالب تلك التجربة وكشف حساب لتجاوزات غير مقبولة بشرياً خاصة إن الجماعات التكفيرية ذات العمليات الانتحارية في عصرنا اليوم تسلك سلوكاً مشابهاً، وبذات ادّعاءات امتلاك الحقيقة وزيادة بتفويض فتاوي ربانية، ما يهمنا فعل القتل كسلوك بربري بغضّ النظر عن دوافعه حيث ما من فعل إلا ويكون ردّ فعل على سلوك سابق، أرى من واجب الأدب والفنون عموماً استنكاره وشجبه، بينما بدا الكاتب حيادياً إزاء هذا الأمر ناهيك عن عدم إضاءة أيّ تناقضات داخلية في ذوات الشخصيات عدا عن ارتكاسها نتيجة تاريخ من الاضطهاد والقمع.
ربما نجح دي لوكا في إثارة إشكالية جديدة عند القارئ العربي عبر إعادة صوغ المفاهيم الكلاسيكية المستقرّة عن النضال الثوري في ضوء اختلاط المعايير بين قبولها واستهجانها.