طفل الغيمة
كلود عبد المسيح
افترشت جدّتي طرّاحتها الحمراء الخاصّة بها، بعدما فكّت ضفيرة شعرها الذي جافاه المقصّ منذ طفولتها. كانت تستغرق وقتاً طويلاً لتسريحه بمشطها العاجيّ المربّع، وتضفيره من جديد، في تأنٍّ وإتقان.
كنّا ننتظر هذه الجلسة الطويلة بفارغ الصبر، لكي نتحلّق حولها مثل السوار، بانتباه وتركيز تامّين، لتقصّ علينا قصصها الشائقة عن جحا وعلي بابا والشاطر حسن. فلجدّتي طريقة فريدة في سرد القصص تفوق كلّ ما عرفت في حياتي من وسائل التشويق وشدّ الانتباه، وكل ما يرضي المستمع ويمتّع فضوله.
قصص كثيرة سمعتها منها ما زالت عالقة في ذاكرتي. لكن واحدة من تلك القصص بقيت تحفر في وجداني، يتردّد صداها في حنايا ذاكرتي، باحثة عن نهاية حقيقيّة ملموسة، غير أنّني لم أهتد.
أذكر أنها كلّما روت لنا تلك القصّة تحديداً، كانت تتغيّر سحنتها ويرتجف صوتها، جاهدة نفسها بتخبئة الدموع التي تتراقص في مآقيها، كأنّ ذلك حصل البارحة. كانت ترتسم فوق وجهها المتعرّج القسمات والمليء بالأخاديد والتجاعيد بشائر الحزن والأسف وهي تقول: «في ما مضى، كانت هناك عائلة مؤلّفة من أم وأب وفتاة وصبيّ. لم تكن الفتاة تتجاوز السادسة، وكان الصبيّ دون الرابعة. كانوا يصطافون حيث يملك الوالد قطعة أرض تمتدّ فسيحة أمام قدمي نسر شاهق العلو. وكان النسر عبارة عن مجموعة من الصخور السوداء الخشنة المسنّنة، وقد جمّعتها الطبيعة أو حفرتها عبر القرون لترتفع بشكل هرميّ مقوّس الرأس. وعند الرأس، تنحني إلى الأمام في شكل منقار معقوف نحو الأسفل، فتبدو للناظر من بعيد كأنّها نسر هائل عملاق يفتح جناحيه ويحني برأسه لينظر نحو الوادي السحيق الممتدّ عميقاً تحت قدميه من الجهة السفلى.
كانت ترتاح قليلاً ريثما ترشف جرعة ماء من طاستها النحاسيّة، ثم تكمل: «أحياناً، كان يتسلّق الرعاة أو المزارعون هذا النسر، ولكنّ أحداً منهم لم يبلغ نهاية المنقار. وقلّة نادرة من المغامرين والصيّادين نجحت في تسلّق النسر حتى نهايته، حيث ينظر المغامر إلى أسفل الوادي ثم يعود ليقصّ على الآخرين أنه قد رأى منظراً يعجز عن وصفه الخيال، مهما أبدع في الوصف والتصوير. كان الواقف على ذلك الشفير يرى وادياً سحيقاً لا قرار له، وليس فيه أثر لنبات أو لبقايا حياة، ما عدا بضع نباتات من العوسج. ولو رمى الواقف هناك بحجر لسمع لارتطامه صوتاً قريباً، بل العديد والعديد من الأصداء التي تتكرّر وتتداعى من كلّ حدب وصوب، كأنّه لن يصل أبداً إلى القعر.
كان ذلك الوادي يمتلئ معظم أيام الصيف بالضباب الأبيض الناصع الذي يتجمّع آتياً من خلف الجبال البعيدة وبطون الوديان الخاوية، لينحشر كلّه في تلك الهوّة السحيقة أو تلك الفجوة الفارغة تحت منقار النسر الحجري، فتبدو للمتفرّج كأنها كتل كثيفة من القطن المنبوش الناصع البياض. وكم تهيّأ للناظر من فوق أنّه لو رمى بنفسه لبقي عالقاً، محمولاً فوق ذلك القطن الكثيف، أو سابحاً عبره إلى ما لا نهاية.
كان أب تلك العائلة يمضي الصيف في العمل يوميّاً في تلك البقعة الممتدّة خلف أقدام النسر الحجريّ ليقلع ويزرع. فكّر مرّات عديدة في تسلّق تلك الصخرة وبلوغ رأسها ليرى بعينه ما يرويه المغامرون. لكنّه لم يجرؤ يوماً على بلوغ شفيرها المرعب. كان يعود أدراجه مكفهرّ الوجه، مرتعد الفرائص، مفضّلاً تمضية حياته الغالية في حصاد القمح وقلع البطاطا وفرط الجوز وجمع الغلال، بعيداً عن التهوّر والفضول. أمّا الأم فكانت تمضي يومها في تجفيف الخضار والفاكهة وجرش الحبوب والاهتمام بأولادها وحلب البقرة. وكان الولدان يمضيان يومهما قرب الساقية التي غصّت ضفّتاها بالنعنع والريحان، يقطفان الأزهار ويجمعان الحشائش للماعز أو يطاردان الفراشات والعصافير. وكانا يفرحان كثيراً عندما يمرّ بكوخهما عابر سبيل جائع أو عطشان أو صيّاد ضلّ طريقه، فيستمعان بشغف وشوق إلى ما يقصّه الزائر عن تسلّقه رأس المنقار ومشاهدته الغيوم الكثيفة التي تبدو مثل فراش وثير.
دأبت الأم على إرسال طعام الغداء كلّ يوم لزوجها مع الطفلين إلى حيث يعمل في بقعة الأرض القريبة من الكوخ المرصوف بالحجارة وأغصان الأشجار وجذوعها، قرب ساقية لا تنام.
ذات يوم حملت الفتاة صرّة الزاد، والصبيّ مطرة الماء، وذهبا بعدما أوصتهما الأم بعدم التلكؤ أو البحث عن أعشاش العصافير على الطريق، كي لا يبرد الطعام. عندما وصلا لم يجدا والدهما في مكانه المعهود. كان ابتعد قليلاً لاستعارة معول من جاره المزارع. وضع الطفلان الزاد تحت الصفصافة الوارفة الظلال وتساءلا بفضول إن كانا يستطيعان تسلّق ذلك النسر مثلما يفعل الرواة الشجعان؟ قالت الفتاة لشقيقها: أنت ابق هنا، سأصعد أوّلاً، وفي حال رأيت ذاك الفراش من الغيوم أناديك. وراحت تتسلّق الصخور الناتئة بخفّة وشجاعة نادرتين. لم يكن في نيّتها أن تناديه خوفاً عليه. لكنّ الصغير لم ينتظر طويلاً، بل لحق بشقيقته وكاد يسبقها، مثبتاً جدارته وشجاعته قبلها.
فوق، عند رأس المنقار، نظرا إلى الأسفل. لم يعترهما الخوف، بل شعرا بالدهشة والانبهار لشدّة اقتراب الغمام منهما، حتى بدا لهما أنهما يستطيعان لمسه والمشي فوقه بثقة وأمان.
أمسك الصبيّ بيد شقيقته وراحا يستعدّان للقفز فوق ذلك اللحاف الأبيض المضلّل والمغري للنظر. في تلك اللحظة حانت من الأب التفاتة نحو قمّة الصخور، فلمح طفليه مثل عصفورين في الأفق البعيد. تسمّر الرجل مكانه مختنقاً، عاجزاً عن المشي، وقام بجهد جبّار لرفع صوته بمناداتهما ومنعهما من التحرّك.
عندما بلغ صوته مسامع الفتاة ليردعها، كان الصبي سبقها ورمى بنفسه بين أحضان الغمام بحماسة وفرح وثقة تامّة. أمّا الصغيرة فحين سمعت صراخ والدها دبّ الخوف في قلبها وتجمّدت في مكانها وأدركت هول ما كانت مزمعة على القيام به، لكن بعد فوات الأوان. وتضرب جدّتي كفّاً بكف وتقول بحسرة مريرة «راح منير»، وتغصّ بدمعها وتسكت هنيهة، فنهبّ قائلين: «وبعدين شو صار»؟
تغمض عينيها وتتنهّد وتسند رأسها قائلة: جميع الذين كانوا في تلك الحقول والوهاد من المزارعين والحطّابين والصيادين ركضوا لنجدة الأب المفجوع بعد سماع صراخه المتألّم. تلاشت الأم وتضاءلت وتقوقعت على نفسها وراحت تتلو الصلوات برجاء يائس وبكاء مخنوق.
ربط الشبّان أنفسهم بحبال طويلة، منحدرين عبر «الزحليطة» المنحدرة بقوّة نحو الأسفل، ورموا بأنفسهم بين الأشواك والصخور، غير آبهين لما سيصيبهم من جروح للوصول حتى القعر السحيق، أملاً في العثور عليه. بحثوا حتى خيّم الظلام واستعملوا القناديل والفوانيس، لكن من دون جدوى. وفي اليوم التالي أتى الجيش بطوّافة وكلاب بوليسيّة وخبراء متخصّصين، لكنّهم لم يجدوا أثراً لمنير ولا لثيابه أو حتّى للحذاء.
بقيت الفتاة لأيّام صامتة مثل صخرة. كان يشعّ من وجهها نور غريب لا خوف فيه ولا ارتباك ولا حزن. فجأة تقدّمت من أمها قائلة بثقة: «لن تجدوا شقيقي في الأسفل لأنّه لم يقع، بل كنت أراه فوق الغمام يبتسم لي ويلوّح بيده مسروراً. بقيت أراه حتى وصل أبي ليأخذني». قبّلت الأم ابنتها وضمّتها إلى صدرها، وصرخت من أعماقها قائلة: «يا ربّ، أنا لا أشكّ في قدرتك البتّة». وبقيت تذهب يوميّاً حتى نهاية الصيف إلى تلك الصخور المسنّنة، فتتلو مسبحتها مراراً وتذرف سيلاً من الدموع، وتبقى على هذه الحال حتى يرافقها زوجها إلى الكوخ مساء، منهوكة القوى، خائرة العزيمة، مذبوحة الفؤاد. وعندما ولّى الصيف وحلّ موعد الرحيل عن تلك البقعة من الأرض، لم تستطع ترك ابنها وحيداً هناك، ففارقت الحياة بعدما طلبت إلى زوجها أن يجعل مثواها في تلك التربة التي داستها أقدام منير للمرة الأخيرة قبل أن يرمي بنفسه في أحضان الغيمة. فلعلّه يعود ويجدها في انتظاره…
لم أعرف أن جدّتي كانت هي نفسها تلك الفتاة، حتى بعد موتها. بقي السؤال يحرق قلبي ويعذّب نفسي: هل فعلاً رأته يبتسم ويلوّح لها بين الغمام ولم يقع في الهاوية، أم أقنعت نفسها بذلك لتخفّف من وجعها الثقيل؟