تفجير الكنائس… تفجير وشلّ الوعي… فما العمل!؟

نصار إبراهيم

ليس أمراً سهلاً أن يقف الإنسان وأن يفكر بعقلانية وهو يقف أمام لحظة هذا القتل المروع الذي يحدث اليوم في كنائس مصر، نعم ليس سهلاً أن يحافظ الإنسان على عقله وهدوئه أمام أجساد الأطفال المحترقة، كما ليس سهلاً أن يحافظ العقل على ضوابطه لكي يقرأ ويحلّل ويفكّك ويتصرّف بعقلانية فيما صرخات الألم والفقد تصعد للسماء.

ولكن وبالرغم من كلّ هذا الألم… وكلّ هذا القتل الجبان… ليس هناك من خيار آخر سوى حماية العقل والوعي… إذ من المحظور أن يفقد الإنسان عقله مهما كانت أهوال اللحظة… هذا يعني أنّ على كلّ فرد أن يفكر وبأقصى ما يستطيع من طاقة لكي يتمّ وعي ما يحدث بعمق ودقة.. ولكي يتمّ إدراك الأهداف العميقة من وراء هذه الجرائم وبالتالي التصرف بناء على ذلك.

فأن يتمّ استهداف أهلنا أثناء تأديتهم لصلواتهم في كنائسهم وفي أيام الأعياد هذا ليس بالتأكيد أمراً اعتباطياً أو صدفياً، بل هي عمليات منسقة ومخططة بدقة عالية، إنها تستهدف صدم الوعي وشلّ قدرته على التفكير، بمعنى إحداث عملية ترويع بهدف استفزاز ردود فعل تحوّل الجماعة الواعية إلى قطيع هائج يدمر في طريقه كلّ شيء… وهكذا يسهل بعدها دفع القطيع بكلّ مكوّناته نحو الهاوية المخيفة، فيشتبك الجميع مع الجميع.

لهذا فإنّ المهمة العاجلة الآن تتركز في ضرورة تفويت الفرصة على تحقيق منظومات القتل والإرهاب لأهدافهم المخيفة.. وهذا مشروط بضرورة الحفاظ على أقصى درجة من التيقظ والوعي العميق لكي يتمّ ضبط إيقاع المواجهة بما يحافظ على انتظام الصفوف والمواقف وخوض المواجهة بوعي وفق مقاربة استراتيجية ترى ما يحدث في مصر في سياق ما يجري في العديد من البلدان العربية.

مواجهة هذه العواصف المنسّقة لا يكون بترداد العبارات التي لا تعني سوى القبول بالمقاربات الطائفية، بمعنى رفض الانطلاق في ردود الفعل من مقاربات تعيد تأصيل الوعي الطائفي، مثل ترداد عبارات التضامن المعروفة حول «الأخوة بين المسلمين والمسيحيين» وما يرافق ذلك من عبارات شجب او استنكار… لماذا أشير لهذا الأمر؟

أقول ذلك لأنّ أحد الاستهدافات العميقة لهذه الأعمال الإجرامية هو ترسيخ فكرة أنّ مجتمعاتنا هي مجرد مجتمعات طائفية، بمعنى أنها مجرد مجاميع طائفية تتعايش دائماً على حافة الهاوية… وليس في يدها لمواجهة مخاطر الانفجار سوى ترداد بعض العبارات الأخلاقية عن الأخوة… أيّ استبدال منظومة العلاقات الاجتماعية والوطنية أو القومية بعلاقات أساسها طائفي أو إثني مما يجعل البنى الاجتماعية والوعي الجمعي بنى هلامية وهشة، حيث يكفي فقط في لحظة ما أن يشعل مجنون أو جاهل عود ثقاب حتى يشتعل ذلك الوعي ويحترق فيهوي الجميع في دوامة الصراعات.

لكي يتمّ وعي هذه المسألة الحاسمة لنعيد إذن بناء المشهد…

هذا الفكر السلفي الظلامي والإرهابي الذي تشكلت حاضنته الثقافية والاجتماعية وتمأسست على مدار عقود لا يستهدف طائفة أو فئة بعينها، ذلك لأنّ أهدافه وأهداف مشغليه ومن يدعمه بالمال والاحتضان ووسائل الإعلام والمؤسسات إنما تتركز على احتلال وعي المجتمع بكامله بهدف ضرب وتدمير مفهوم الوحدة الوطنية والاجتماعية القائمة على مفهوم الشعب والمواطنة والدولة.. وبالتالي تعطيل ايّ فرصة للنهوض ومواجهة التحديات القومية والاجتماعية، وجعل المجتمع أسير ثقافة مهتزة لا ترى أبعد من الطائفة أو العشيرة أو القبيلة.

لهذا فإنّ إلقاء نظرة ولو سريعة على ما يجري منذ ست سنوات، أيّ منذ بدايات ما يسمّى بالربيع العربي وقبله، سيوضح أن ليس هناك فئة أو طائفة أو دين مستهدف أكثر من غيره، والبرهان على ذلك في الحقائق التالية:

ـ لقد جرى احتلال وتدمير العراق وإشعال نيران الطائفية الشاملة فيه بين السنة الشيعة، وبين العرب والأكراد وبين المسلمين والمسيحيين، والأزيديين والأشوريين وغيرهم.

ـ حرق سورية وإدخالها في براكين الاحتراب من خلال تظهير الصراع الطائفي بين السنة والعلويين، ومن ثم محاولة فصل الدروز عن مجتمعهم وتاريخهم، ووضع الأكراد وهم مسلمون سنة في مواجهة باقي مكونات المجتمع السوري… ومحاولة وضع المسيحيين وكأنهم خارج النسيج الاجتماعي.

ـ تدمير اليمن من خلال الترويج بأنّ الصراع هو بين المسلمين السنة والحوثيين المسلمين.

ـ ورغم أنه لا يوجد في ليبيا لا شيعة ولا طائفة مسيحية كبرى إلا أنه تعرّض لعملية تحطيم شاملة وحرب مستعرة حتى اللحظة.

ـ أما في مصر حيث لا شيعة فإنّ منطق التدمير قام باستهداف المسيحيين الأقباط.

ما جرى في مصر اليوم ليس خارج هذه المعادلات… الألم عميق والثمن باهظ… لكنه سيكون أكثر تدميراً وهولاً لو سقط المجتمع في هوة ما يخطط له هؤلاء الإرهابيين ومن يخطط لهم ويوجههم… إنهم يقومون بهذه الجرائم وهم يعتقدون أنّ استهداف مكوّن طبيعي وتاريخي أساسي من مكوّنات الشعب والمجتمع المصري… سيدفع المجتمع إلى فقدان عقله… بهذا يسهل لاحقاً تمرير مخططات التمزيق الجغرافي والسكاني كنتيجة لسياسة وثقافة الترويع الطائفي والديني.

وبما أنّ هذا هو الهدف العميق لعصابات القتل، وعليه فحتى لو لم يوجد الأقباط في مصر لقاموا إذن بتوظيف أية مكونات أخرى لإشعال نيران الموت والذبح والقتل والكراهية… والهدف تمزيق وحدة الشعب المصري وإغراقه في فوضى التدمير الذاتي والاستنزاف المتواصل.

هذه الحقيقة تتجلى وبكلّ وضوح في سورية، حيث أنّ الغالبية الساحقة من ضحايا العدوان الذي تشنّه عصابات القتل المدعومة من أعراب الخليج وتركيا و«إسرائيل» ودول الغرب الاستعماري هم من المسلمين السنة.. بل لقد تمّ قتل محمد رمضان البوطي السوري الكردي السني أحد أهمّ علماء الدين المسلمين في العالم وهو يصلي في محراب مسجده… ومعه قتل عشرات المسلمين السنة.

هذا الفكرالإرهابي القاتل والظلامي، هو مجرد أداة تضرب مرة هنا ومرة هناك ومرة هناك.. إنها تقتل وتفتك ولا يهمّها إنْ كان من تقتله مسلماً أم مسيحياً أم كردياً أم درزياً أم سنياً أم شيعياً أم غير ذلك.. ما تسعى إليه هو إعادة بناء الوعي الاجتماعي انطلاقاً من الرعب والخوف الطائفي… وذلك بهدف قطع الطريق على أيّ وعي وطني وقومي عميق يقوم على ركيزة الدولة لكلّ مواطنيها.

إذن.. الخطوة الحاسمة لمواجهة هذه المنظومة السياسية الفكرية الثقافية الظلامية المجرمة والقاتلة يكون بعدم قبول ما تحاول تمريره من خلال صدمة الترويع والقتل…

هذا يعني أنّ على الجميع أن ينتبه كي لا يصبح جزءاً من ثقافة وغرائز القطيع التي يحاول هؤلاء القتلة بجرائمهم أن يدفعوا المجتمع إليها… فالمستهدف من هذه الجرائم ليس المسيحيين بذاتهم أو هذه الطائفة بذاتها، إنهم مستهدفون بقدر ما هم مواطنون في المجتمع، وبالتالي فإنّ المستهدف بالأصل والجوهر هو المجتمع والشعب بكامله.

هكذا تتأسّس وحدة الردّ والصدّ الواعية.. وليس بترداد عبارات التضامن والتأكيد على الأخوة الطائفية… أو تبادل الشتائم واللعنات… وبعد ذلك وقبله.. يبقى التحدي: كيف يمكن إعادة بناء منظومة التعليم والدستور والقوانين التي تشكل الردّ الاستراتيجي على هذا الفكر التدميري الشامل… كيف يمكن مواجهة التحديات الاجتماعية التي يجد فيها هذا الفكر الظلامي البيئة والحاضنة ليترعرع؟ كيف يمكن منع تحويل أموال النفط إلى وسائل إعلام وترويج لنشر هذا الفكر القاتل؟ وكيف يمكن منع وسائل الإعلام المختلة عقلياً وثقافياً وأخلاقياً من غزو عقول أطفالنا ومدارسنا وجامعاتنا وبيوتنا… و… و… و…؟

في النهاية إننا بحاجة للعقل الوازن والعميق ليس في لحظات الرخاء والرفاهية.. إننا نحتاجه بالضبط في مثل هذه اللحظات.. لحظات الألم الأقصى والفقد الأقصى.. كي لا نفقد وعينا… وهو ما يحاول القتلة إيصال شعوبنا إليه… ليصبح المجتمع مجرد قطعان تقتتل في ما بينها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى